فرقة العمال المصرية ” الوجه المجهول لمعاناة المصريين تحت الاحتلال البريطاني
أبين ميديا /متابعات
خلال الحرب العالمية الأولى، وجدت بريطانيا نفسها في حاجة ماسة إلى العمالة المدنية لدعم جيشها، وكون مصر تحت الحماية البريطانية، أصبحت المورد الأساسي لهذا الاحتياج. ورغم أن مصر لم تُعلن دخولها الحرب رسميًا إلا عام 1916 بعد معركة الدردنيل، إلا أن العمال والفلاحين المصريين كانوا يُجندون منذ هجوم الأتراك على قناة السويس في يناير 1915، ليجدوا أنفسهم في خطوط القتال دون إرادتهم.
الحكومة المصرية في ذلك الوقت، تحت حكم الملكية، ادّعت أن العمال المصريين الذين تم إرسالهم إلى الجبهات كانوا “متطوعين” لخدمة الوطن وحماية مصر. لكن الحقيقة كانت بعيدة عن هذه الرواية الرسمية.
تم تجنيد غالبية هؤلاء قسرًا، ورافقت حملات التجنيد إجراءات قمعية تحت غطاء الأحكام العرفية التي فرضتها بريطانيا، واستُغل الفلاحون البسطاء، الذين لا يملكون خيار الرفض، ليخدموا في ظروف قاسية لصالح القوات البريطانية.
تشير الوثائق البريطانية إلى أن أكثر من نصف مليون مصري تم إرسالهم إلى الجبهات، وهو رقم مذهل بالنظر إلى أن عدد سكان مصر آنذاك لم يتجاوز 12 مليون نسمة.
أُرسل هؤلاء العمال إلى مواقع متفرقة في أوروبا والشرق الأوسط. في فرنسا وإيطاليا، عملوا في شحن وتفريغ السلع في الموانئ. في سيناء والسودان وليبيا، نُقلوا لنقل المؤن باستخدام الجمال.
وفي بغداد المحتلة، كُلّفوا بفرض النظام تحت إمرة الجيش البريطاني. كما ساهموا في بناء خطوط السكك الحديدية وأنابيب المياه التي تربط مصر بفلسطين، وساعدوا في تقدم القوات البريطانية نحو فلسطين واحتلال القدس، ومنها إلى سوريا.
كانت ظروف العمل شديدة القسوة، خاصة أن البريطانيين لم يمنحوا هؤلاء العمال أي حماية تُذكر، سواء من الأمراض أو المخاطر الحربية.
في فلسطين، تم إرسال مئات الآلاف من العمال المصرييين للعمل في حفر الخنادق على الجبهات الأمامية ومد السكك الحديدية لتسهيل تقدم القوات البريطانية ، وتعبيد الطرق وبناء خطوط الأنابيب تطهير المستنقعات من الملاريا.
—وفي معركة غزة الثالثة عام 1917، استُخدم العمال المصريون كطُعم للجيش العثماني حيث وُضعوا في القوارب كأنهم جنود بريطانيون، وقصفتهم المدفعية العثمانية، ما أدى إلى خسائر بشرية هائلة.
بعد المعركة، أُمر العمال بتطهير ساحة القتال من الألغام والقذائف غير المنفجرة بأيديهم المجردة، ما تسبب في المزيد من الوفيات
كانت هذه الجهود جزءًا من خطة بريطانيا لـ”تحديث الأرض المقدسة”، التي اعتبرتها رمزًا لإمبراطوريتها
— الباحث الأميركي كايل جون أندرسون سلط الضوء على هذه القصة المنسية في كتابه “فرقة العمال المصرية ” وتكلم عن حجم المعاناة والاستغلال الذي تعرض له هؤلاء العمال، ويعتمد على أرشيفات تاريخية من أربع دول مختلفة.
ركز كتاب الباحث الامريكي على النظرة العنصرية التي تعامل بها البريطانيون مع العمال المصريين. العمال “غير البيض”، كما يصفهم المؤلف، حيث عوملوا كحيوانات بلا قيمة، ورغم دورهم الحاسم خلف خطوط القتال، لم يكن لديهم أي مكان في السرد البطولي للحرب الذي ركز على الجنود الأوروبيين العائدين إلى أوطانهم يلفّهم المجد.
العمال واجهوا ظروفًا صعبة للغاية وكان العمل في بيئات قاسية، وسط البرد والجوع والأمراض ، وتفشي الملاريا والكوليرا بسبب نقص الرعاية الصحية ، وكان خطر الموت بسبب القصف أو الانهيارات أثناء حفر الخنادق دائما يلاحقهم ، ولم يُعتبروا جزءًا من المجهود الحربي رسميًا، ما جعلهم عرضة للإهمال التام.
عدد كبير من هؤلاء العمال لم يعودوا إلى مصر؛ إما ماتوا في ظروف غير إنسانية، أو أصيبوا بجروح لم تُعالج ، ومن الملاحظ أن البريطانيين لم يحتفظوا بسجلات للوفيات من المصريين ولم يتم التقاط أية صور فوتوغرافية للمقابر الجماعية التي دفنوا فيها، ولا تحديد مواقعها .
خسر الريف المصري مئات الآلاف من العمال، مما أثر على الإنتاج الزراعي والاقتصادي ، وتصاعد الغضب الشعبي تجاه الاحتلال البريطاني، مما ساهم لاحقًا في نمو الحركات الوطنية ضد الاستعمار.
لا يمكن إغفال دور الحكومة الملكية في مصر، التي تعاونت مع بريطانيا في هذا التجنيد القسري، بناءً على اتفاقيات الحماية المشتركة فقد كانت فترة استغلال جسيم للفلاحين البسطاء.
وبعد انتهاء الحرب التي لا ناقة لهم فيها ولا جمل .. حرب صنعوا فيها النصر لقوات الحماية التي كانت قد تعهدت عند دخولها مصر أن لا تكلف مصر جنديا ولا نفرا ولا جنيها واحدا، وأخلت بعهودها كلها.
ساقتهم إليها سلطة غاشمة تعهدت برعايتهم والقيام على مصالحهم وإخراجهم من الجهل والفقر والمرض للمدنية والرفاه والتقدم، ولم تكتف بذلك بل أمعنت في فرض الضرائب والاستيلاء على خيرات البلاد، وتحويلها لصالح المجهود الحربي للمحتل، وعندما جلس المنتصرون في فرساي لاقتسام الغنائم لم يتذكر أحد فرقة العمال المصرية ولا بكلمة شكر أو عرفان، لتبقى ذكراهم مبعثرة هنا وهناك، ويطوي الذين ماتوا منهم غياهب النسيان، أما الذين عادوا فلم يحصلوا على شيء إلا فرحة النجاة من هذا الأتون المرعب.
ويكتب بديع خيري على لسانهم أغنيته الشهيرة “سالمة يا سلامة” التي لحنها سيد درويش عام 1919.