الاستقلال الحتمي: إرادة شعبٍ لا تُقهر وحكمة قائدٍ لا تُغلب
كَتَبَ: عبدالرقيب السنيدي
حقيقةً، إنَّ الحديث عن شعب الجنوب الأبيّ هو حديثٌ عن صَيرورةِ التاريخِ ونبضِ الحضارة. إنَّه حديثٌ عن شعبٍ أُوتيَ من الصّلابة ما يفلُّ الحديدَ، ومن العزيمة ما يَدكُّ الصّخور، فظلَّ شامخاً كالجبال الأشمّ، ضارباً بجذوره في أعماق الزمن، حافظاً لعراقة أصله ومقوِّمات وجوده وموقعه المصيريّ. هذا هو الشعبُ الذي جعل من صموده أسطورةً ترويها الأجيال، فصَغُرَتْ أمام ثباته أعتى الإمبراطوريات، وحَقَّقَ استقلاله الأول بإرادةِ أبنائه البواسل ووحدةِ صفوفهم المتينة. شعبٌ تَعدَّدَتْ ضده المؤامرات وتناوَبَتْ عليه النكبات، ولا سيّما من قوى الاحتلال اليمنيّ، فَعَصَفَتْ به رياحُ غدرٍ أرادتْ إدخاله في نفقٍ مظلمٍ من “وحدةٍ” قسريةٍ، ذاق فيها مرارة اغتصاب الأرض، وتشويه الهوية، واستباحة الكرامة والإنسان.
واليومَ، ونحن نستحضرُ أبرزَ المنعطفات التي خاض غمارَها هذا الشعبُ الصّنديد، والتي ذاق فيها – عبر المحن – علقمَ القتلِ والسَّلبِ والتَّدميرِ والتَّجويعِ والإذلال، ندركُ أنَّ إرادته كانت أصلبَ من أن تنكسر، وأعتى من أن تستسلمَ لآلةِ قمعٍ غاشمةٍ. بل ظلَّ هذا الشعبُ الأبيُّ يستمدُّ قوَّتَه من عدالة قضيته، ويَتَّخِذُ من صبره على الجلدِ والتهجيرِ والتَّشريد مدرسةً للثباتِ، وميداناً للتَّحدي، متمسِّكاً بمنهجٍ واحدٍ لا يحيد عنه: طريق الحرية والكرامة والسيادة. وها نحنُ اليومَ نعيشُ رحلةَ المخاضِ العسيرةِ لولادة دولة الجنوب العربي، تلك الدولةِ التي نُسجَتْ صفحاتُ مجدها بدماء الشهداء الأبرار، وشُيِّدَتْ أركانُها على تضحياتِ الأبطال، عبر منعطفاتٍ تاريخيةٍ حاسمةٍ، حتى بلغنا ما نحنُ عليه من عُـزٍّ ومنعةٍ. فنحنُ نسيرُ على الدربِ ذاته، دربِ الشهداء.. طريقٌ وعِرٌ، لكنَّنا عازمونَ عاملونَ، قد شمَّرنا عن ساعد الجدِّ، ورفعنا أكفَّ الضراعةِ إلى السماء، وحملنا أكفانَ العزَّةِ بأيدينا، ندعو المولى أن ينصرنا كما نصر أولئك الفرسان الذين يحرسون حدودَ الوطنِ، ويذودونَ عن حياضِ أرضه الطاهرة، حاملين على عاتقهم أمانةَ حماية المنجزاتِ والأمنِ والاستقرار.
إنَّ الخيارَ الاستراتيجيَّ الحكيمَ الذي انتهجته قيادتُنا السياسية، برؤيةٍ ثاقبةٍ للمستقبل، وبديناميكيةٍ وثباتٍ وحنكةٍ بالغين، هو الذي فضحَ المؤامراتِ الدنيئةَ، وكشفَ الأقنعةَ المزيفةَ، وعرَّى عوراتِ الأعداء، وأحبطَ المخططاتِ الخبيثةَ التي حاكها أعداءُ هذا الشعبِ لطمسِ هويته ووأدِ أحلامه.
ودعونا نتوقَّفُ عند محطَّاتٍ مشرقةٍ شكَّلتْ منعطفاتِ النصرِ وبوادرَ الخير، وفتحتْ آفاقاً رحبةً لكسبِ التأييد الإقليميّ والدوليّ، من خلال حركةٍ دبلوماسيةٍ وسياسيةٍ ذكيةٍ، نالت تعاطفَ الإخوةِ والأصدقاء، وبدأتْ تحصدُ الاعترافَ بحقوقِ شعب الجنوب المشروعة. وقد تمَّ بالتوازي بناءُ القوات العسكرية والأمنية الجنوبية على أسسٍ وطنيةٍ رصينةٍ، والوقوفُ جنباً إلى جنبٍ مع دول التحالف في حماية الممرات المائية الدولية، ودرءِ أخطار الإرهاب والمدِّ التخريبيِّ الحوثيّ الإيرانيّ.
واليومَ، فإنَّ المعطياتِ الكبرى على الأرض، وما نشهدهُ من تحرُّكٍ عسكريٍّ حثيثٍ لبسطِ السيطرةِ الكاملةِ حتى حدودِ التماسِ مع الأراضي اليمنية في المهرة وشبوة وحضرموت، إنَّما هي ترجمةٌ عمليّةٌ لأعلى درجاتِ الحكمةِ والرُّشدِ السياسيِّ، التي تجسِّدها القيادةُ الجنوبيةُ الممثَّلةُ بالرئيسِ القائدِ عيدروس قاسم الزبيدي، رئيسِ المجلس الانتقاليِّ الجنوبيِّ والقائدِ الأعلى للقوات المسلحة، وهي برهانٌ ساطعٌ على النُّضجِ السياسيِّ والعسكريِّ الذي بلغتهُ مؤسساتُ الدولة الجنوبية الناشئة، حيث أصبحت قواتنا المسلحةُ حصناً منيعاً وركيزةً أساسيةً من ركائز المنجزاتِ العظيمةِ في حفظِ مكتسباتِ الشعبِ وأمنه.
وأخيرًا…أكتبُ هذه السطور المتواضعة – وهو واجبٌ عليَّ، في الوقوف مع شعبي في هذه اللحظات التاريخية، وأنا أمرُّ بوضعٍ صحيٍّ خاصٍّ بعد عمليةٍ جراحيةٍ أجريتها في العمود الفقريّ بمصر الحبيبة – فأقولها بصوتٍ واحدٍ مُدَوٍّ يملأ الآفاق: لقدِ اقتربَ الحلمُ حتى كادَ يلامسُ الحقيقةَ، وأصبحَ الاعترافُ بدولةِ الجنوبِ العربيِّ مسألةَ وقتٍ لا أكثر، ثمرةً طبيعيةً لإرادةِ شعبٍ جسَّدَ أسطورةَ الصّمود، وحكمةِ قيادةٍ رسمتْ خارطةَ النصر. لقد بدأ عرشُ الاحتلالِ اليمنيِّ ومليشياته الإخوانيةِ الإرهابيةِ يَتهاوى، بعد أنْ جعلوا من الجنوبِ ومنجزاته غنيمةً لسادةِ الحربِ والفسادِ في صنعاء، في أسوأِ مرحلةٍ عاشها إقليمُنا على مدى ثلاثةِ عقود. لقد أعادتِ الاعتصاماتُ والانتصاراتُ الأخيرةُ روحَ الثورةِ إلى الجماهير، وهزَّتْ عروشَ المحتلينَ من الأعماق، وسقطتْ أقنعتُهم المزيفةُ، ولم يعدْ يفصلنا عن إعلانِ دولةِ الجنوبِ العربيِّ سوى لحظاتٍ تاريخيةٍ معدودة، بدعمٍ إقليميٍّ ودوليٍّ لن يتأخَّر، فالمستقبلُ لنا، وقد دقَّتْ ساعاتُ الفجرِ.








