تطور عادات وتقاليد الزواج في حصن بن عطية منذ خمسينيات القرن الماضي حتى السبعينيات ( الجزء الثاني )

 

الدكتور سعودي علي عبيد

وفي عصر ليلة الزفاف، تقام حفلة الزفاف في منزل أهل العروس، أو في مكان بجانب المنزل، يتم تسويره بغرض ستره عن أعين المارة من الناس.
– وفيما يخص عقد القران- أي عملية إشهار الزواج – فكانت تتم من خلال مقابلة والد العروس أو أقرب الناس لها إذا كان والدها متوفى. أما الطرف الثاني فهو العريس. ويكون ذلك بوجود مأذون. وفي تلك الفترة المبكرة لم يكن هناك وجود لمأذون رسمي أو شرعي، وكانت مراسيم العقد تتم في يوم الزفاف أو قبله بعدة أيام. وفي تلك الفترة، لم يكن الناس معتادين على كتابة عقود الزواج، وكانوا يكتفون بإشهاد الناس الحاضرين لحظة عقد الزواج.
– وفي اليوم الذي يحدد لزفاف العروس، يذهب العريس وأهله وجمع من أقاربه ومعارفه وجيرانه إلى منزل العروس، وينزلون ضيوفاً على أهل العروس في منزلهم، وينتظرون حتى يتم تجهيز العروس. وبشكل عام، كانت مراسيم الزفاف تبدأ في وقت متأخر من الليل. وفي فترة باكرة – وبسبب عدم توافر السيارات أو ندرتها – كانت عملية نقل العروس إلى منزل الزوجية، تتم في هودج محمول على جمل.
وقبل أن نسترسل في حكايتنا، أو (سالفتنا) – بحسب قول أهل الخليج – فإن الكثير من الناس لا يملك معرفة دقيقة أو شافية عن إمكانية وضع الهودج على ظهر الجمل، في الوقت الذي لا يمكن حدوث ذلك مع حيوانات أخرى؛ مثل الحمير أو البقر أو غيرها!! وسبب ذلك، إن هؤلاء لا يعرفون أن طريقة سير الجمال، تختلف تماماً عن طريقة السير عند الحيوانات الأخرى كافة. أي أن الجمل – أثناء سيره – يحرك يده اليمنى مع قدمه اليمنى، ثم يحرك يده اليسرى مع قدمه اليسرى. وذلك خلاف الحيوانات الأخرى – بما فيها الإنسان – التي تحرك – أثناء سيرها – اليد اليمنى مع الرجل اليسرى، والعكس صحيح. وهذه الطريقة التي تتسم بها الجمال في مشيها، هي التي تخلق إمكانية وضع الهودج عليها، ومن خدر العرسان فيها. وهذا أولاً. أما ثانياً، فإن الجمل يختلف عن الحيوانات الأخرى، بأن لديه دورتين دمويتين. وأن لديه أكثر من مخزن احتياطي للغذاء والماء، بحيث يمكنه أن يتموَّن من داخله لفترة طويلة. ومع أن الجمل يوصف أنه صبور، إلا أن له طبيعة أخرى أنه حقود جداً. ولذا فعندما أرادت العرب قديماً أن تبالغ في وصف حقد شخص ما، قالت بأنه “أحقد من جمل”.
وبالإضافة إلى وظيفة الجمل التي نحن بصدد الحديث عنها – أي حمل العروس إلى منزل الزوجية – فإن وظيفته الأساسية هي استخدامه في التجارة، ونقل المحاصيل الزراعية من الحقول إلى الأسواق، أو إلى أماكن الخزن.
وقبل أن يظهر الجمل في منطقة الشرق الأوسط، فإن الجمل قد استوطن صحراء شمال أمريكا، إلا أنه فُني قبل مليون سنة. وقبل الميلاد بنحو ثلاثة آلاف عام، دُجنتْ الجمال في الشرق الأوسط، واختفتْ أنواعه المتوحشة. وترجع أقدم الرحلات المعروفة عبر الصحراء الأفريقية، إلى ألف عام تقريباً قبل الميلاد، عندما كانت تستعمل الثيران وعربات الخيل.
كما ترجع التجارة عبر تلك الصحراء إلى أزمنة قديمة، ولكن عبورها لم يكن سهلاً حتى القرن الثالث للميلاد، حين حلَّ الجمل محل الحصان. وبعد انطلاقته صحراوياً، انتشر استخدام الجمل بسرعة.
وبالعودة إلى حكايتنا، فإنه من حسن حظي إنني شاهدت في صغري، زفاف جارنا محمد حَرِد على زوجته الثانية. وكان موطن العروس في قرية الرواء، التي تبعد عن الحصن بنحو( 3)كيلومتراً. وكنت حينئذ صغيراً، لا يتجاوز عمري السبع سنوات أو ثمان، إن لم يكن أقل من ذلك. وكان من عادة والدي أن يأخذني معه إلى أي مكان يذهب إليه. وخاصة إذا كان ذلك المكان خارج موطننا (الحصن). وأتذكر إنني أرهقت كثيرا من تلك الرحلة.فقد ذهبنا سيراً على الأقدام، وعدنا كذلك. مع الأخذ بعين الاعتبار صغر سني. كما أن العودة كانت في وقت متأخر جداً من الليل، بالإضافة إلى ما شاهدته أثناء عودتنا. ويبدو لن العامل الأخير هو السبب الرئيسي، لبقاء هذا الحدث عالقاً ومحفورا في ذاكرتي حتى اللحظة، برغم المسافة الزمنية الشاسعة التي تفصلنا عن ذلك الحدث.
وقبل أن نلج إلى تفاصيل الحكاية، ينبغي الإشارة إلى أن التكاليف الأساسية للزواج، لا تقف عند تحديد مهر الزواج الذي يدفعه العريس، بل توجد نفقات أخرى يلزم العريس بدفعها للعروس أو لأهلها. ونذكر منها المبالغ الآتية: مبلغ معين يتفق حوله بين أم العروس وامرأة أخرى – غالباً ما تكون كبيرة السن- تلازم العروس من عتبة منزلها حتى منزل العريس كطرف أول، والعريس كطرف ثان.وهذا المبلغ يكون مقابل دخول العريس على عروسته.
ويمكن تفسير ذلك، باعتبار أن ذلك بمثابة استحقاق مادي مقابل التربية الفاضلة، التي حصلت عليها الفتاة(العروس) من أهلها بشكل عام، ومن أمها على وجه الخصوص، بحيث حافظت الفتاة على عفتها حتى لحظة وصولها منزل الزوجية. كما أن هذا المبلغ، هو كذلك بمثابة استحقاق للفتاة لحفاظها على شرفها وعفتها. وكان يطلق على تلك المرأة المرافقة للعروس بـ “الكوبلية”. كما يطلق أهلنا في عدن على هذه المرأة ب”المكدية”. وحقيقة الأمر ليس لنا علم بمصدر هاتين الكلمتين. أما المبلغ المذكور، فكانت تطلق عليه العامة “الرضوة”. ويبدو لي إن الكلمة جاءتْ من الرِّضا أو الرِّضاء، التي تعني الموافقة. وهناك مبالغ أخرى، سنذكرها في حينها.
وبالعودة إلى حكايتنا، فبعد أن تم تجهيز العروس – استعدادا لمغادرتها منزل أهلها، وانتقالها إلى منزل الزوجية، وبدأت النساء بالزغاريد والغناء – فما هي إلا لحظات، حتى أبدت العروس تمنعها من تجاوز عتبة المنزل، طالبة مبلغاً مالياً من العريس مقابل ذلك. وحينها بدأت المفاوضات حول مقدار المبلغ. وعندما توصل الطرفان إلى اتفاق حول المبلغ، ساعتها صار بإمكان العروس الخروج من منزل أهلها. وأمام المنزل جرى إناخة الركوبة(الجمل)، لكي تدخل العروس إلى الهودج، ولكن مرة أخرى امتنعت عن الصعود إلى الهودج إلا بمقابل. وكما حدث في الحالة الأولى تم حل الإشكال. ثم انطلقنا نحو الحصن. وعندما وصلنا إلى مشارف الحصن، وكان علينا أن نجتاز الجسر، الذي يربط بين قسمي المدينة، إذ بالعروس تمسك بعقال الركوبة(الجمل)، حتى تمنعه من مواصلة السير. وبالطبع فقد كان الغرض من ذلك هو طلب مبلغ معين. وحُلتْ المسألة كسابقاتها. وبعدها انطلقنا باتجاه منزل الزوجية. وعند وصولنا المنزل، امتنعت العروس من النزول من على الجمل إلا مقابل مبلغ من المال، تم الإنفاق عليه. ثم كانت آخر خطوة، وهي دخول منزل الزوجية. إذ رفضتْ العروس الدخول إلى المنزل. فحلتْ المشكلة مثل سابقاتها. وأخيراً برزت المشكلة الأساسية، وهي ما يخص المبلغ الخاص بدخول العريس على عروسته(الرضوة). وفي الغالب دائماً ما تتعقد الأمور بين الطرفين عند هذه اللحظة. والسبب يعود إلى أن مقدار المبلغ المطلوب، غالباً ما يكون مبالغاً فيه. إلا أنه يتم حل الإشكالية كما هي حال الأخريات. وتبقى جزئيتان لا بد من التعريج عليهما. وهما كيفية دفع تلك المبالغ، أما الأخرى فهي خاصة بالمهمة أو الوظيفة التي تضطلع بها تلك المرأة المرافقة للعروس، أو “الكوبرية”.
أما فيما يخص تلك المبالغ – التي(اجبر) العريس على دفعها لعروسه باستثناء مبلغ(الرضوة) – فقد كانت رمزية. ويبدو لي أن الهدف من تلك الحركات التي أفتعلتها العروس، هو زيادة لوعة واشتياق العريس لعروسته، ورفع قيمتها عنده. أما بالنسبة لتسديدها، فذلك مرهون بمدى العلاقة التي ستتأسس بين الطرفين: الزوج والزوجة. فإذا كانت من النوع الممتاز، فالغالب أن كلَّ تلك المبالغ ستصبح في خبر كان. بمعنى أنها ستُنسى، لأن ما هو موجود بينهما أهم وأثمن من تلك المبالغ. أما إذا كانت العلاقة سيئة، فلا مناص من تسديدها. لأنها – أي تلك المبالغ – ستصير جزءاً من تلك المشاكل المثارة بين الطرفين، أو الأطراف في حال تدخل أسرتي الزوجين في هذا النزاع. كما أنه من الممكن أن يُرغم العريس على دفع تلك المبالغ فوراً، أو كتابة صك بدفعها في أجل مسمى، أو تأجيل دخوله على عروسه حتى سداد ما عليه. وكل ذلك مرهون بدرجة العلاقة القائمة بين تلك الأطراف مجتمعة؛ الأسرتين والزوجين، ومستوى الثقة بينها. وفي حالات معينة، أدتْ مثل تلك الإشكاليات إلى فشل بعض الزيجات سريعاً.
أما المهمة التي أسندتْ إلى “الكوبلية”، فيبدو أنها تحددتْ في ثلاث مسائل: الأولى، هي مرافقة العروس من منزل أهلها حتى غرفة نومها في بيت الزوجية. والثانية، هي محاولة التقريب بين العروس وعريسها- الذي سيصير زوجها بعد لحظات- وخاصة فيما يخص ذلك المبلغ الذي تطلبه العروس، مقابل دخوله عليها أو بها، بحسب تعبير المأذون في مسرحية “الواد سيد الشغَّال”، بطولة الزعيم عادل إمام. أما المسألة الثالثة – وهي الأساسية – فتتمثل في التخفيف من هلع وخوف العروس، مما يترتب على الليلة الأولى. والحديث هنا يخص مرحلة مبكرة من زمننا الحاضر، عندما كانت الأمية الأبجدية، وانعدام الوسائل الثقافية بكل أنواعها سمتين سائدتين في المجتمع. بما يعني بالضرورة الافتقار الكامل إلى أية معلومات بسيطة وصحيحة عن الممارسة الجنسية، ولو في حدودها الدنيا. وعلى أساس ذلك وعوضاً عنه، تقوم(الكوبلية) بتبسيط “المسألة ” للعروس، وتهدئة روعها.
وتختتم فعاليات الزواج بحفلة خاصة بالنساء فقط، تقام في ليلة القابلة عصراً. وهي الليلة التي تلي ليلة الزفاف. ويُطلق على هذه الحفلة بـ”الصبحية “. وتقام في منزل الزوجية. وكانت العادة في وقت مبكر من الآن، حرص أهل العروس – وخاصة الأم – أن تبرهن للآخرين على عذرية بنتها. ولا تخلو العملية من طرافة. وأعتقد أن الكثيرين من المتابعين يفهمون القصد.
وهناك من تزوج بثانية وثالثة ويمكن برابعة. وقد ساهم على القيام بذلك سببان: الأول ديني، وذلك بالاستناد إلى الآية الكريمة التي فهمها المؤمنون أنها قاعدة تشريعية بالإذن لهم من الله سبحانه وتعالى بالسماح لهم بالزواج من أربع نساء كحد أقصى، مع أن مضمون وهدف هذه الآية شيء آخر تماما. وأعتقد أن من لديه معرفة صحيحة بدين محمد(ص) يعرف ذلك تماما. أما السبب الآخر، فهو ذو صلة بالجانب المادي لأي شخص، فالذين لديهم قدرة مادية فهو قادر على الزواج، والعكس صحيح.
كما أنَّ نفقات الزواج لم تقتصر فقط على دفع المهور والصداق(المؤخر)، اللذين يقدمان للمرأة، بل هناك نفقات أخرى خاصة بتجهيزات حفلات الزواج، ابتداءً من أول يوم في الزواج حتى آخر يومٍ فيه. وهو اليوم الذي تنتقل فيه العروس من منزل أسرتها إلى بيت الزوجية. وهذه العملية تمرُّ بعددٍ من المراحل أو المراسيم. إلاَّ أنَّ ما يعنينا هنا ونريد أن نتناوله، هي المرحلة التي يطُلق عليها بـ(المخدرة).
والمخدرة هي مرحلة أساسية من مراحل حفلات الزواج، وتقام للعروس والعريس بشكلٍ منفصل كلٌّ على حده. إلاَّ أنَّ ما يعنينا هنا، هي المخدرة التي تقام للعريس. حيث تقام هذه المخدرة، إما في منزل العريس، إذا كان المنزل يحتوي على بهو واسع(الحوش). وهذه هي المرحلة الأولى التي مرَّتْ بها المخدرة من حيث مكان إقامتها. أو تقام في مكانٍ واسع بجوار منزل العريس، أو بعيداً عن المنزل، وفي أماكن خُصصتْ لهذا الغرض. وهي المرحلة الثانية والحالية في تطور حفلات المخادر من حيث المكان المخصص لإقامتها.
وبشكلٍ عام، يعمل القائمون على هذه المخدرة، على الاعتناء جيداً بالمكان الذي تقام فيه، وذلك من جهة تنظيفه وتجهيزه وفرشه، حتى يكون مناسباً لتناول أوراق القات- من جانب المدعوين إلى هذه المخدرة، أي فرشها بالمتاكي. كما يحتل العريس مكان الصدارة في المخدرة، بعد أن يلبس أحلى ما يملك من الثياب. كما يقعد إلى جواره شخصٌ آخر، قد يكون أخاه أو من أقربائه أو أصدقائه. ويطلق على هذا الشخص بـ(السييِّر). وقد تكون الكلمة مشتقة من الفعل(سار مع)، التي تعني المرافقة أو الصحبة، (والله أعلم). أما في زمننا الحاضر، فإن المخادر صارت تقام في قاعات مغلقة ومكيفة .

وللموضوع بقية

29 رمضان 1445 الموافق 8 إبريل 2024

يتبع… الجزء الثالث

مشــــاركـــة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى