بين الخذلان والوفاء

كتب / ماهر العبادي ابو رحيل
خذلوك، يا قلبي… نعم، أخذوك كما تأخذ الريح أوراق الخريف، بلا رحمة، بلا شعور بما تركوه من ثقل في صدرك، بلا اعتبار لما زرعوه من أمل في أعماق روحك، أخذوك وكأن قلبك كان مجرد لعبة بين أصابعهم، وكأن الوفاء لم يكن سوى كلمة تتلاشى مع أول نسمة من الصدفة، كم تمنيت أن يعرفوا قدر حبك قبل أن يفرطوا فيه، وكم شعرت بالغصة حين اكتشفت أن قلوبهم كانت خالية من صدى الوفاء الذي كنت تحمله لهم، وأن كل وعد كان مجرد سراب يتلاشى عند أول مسافة بينكم.
خذلوك، يا قلبي… لأنهم لم يعرفوا أن الحب عهد، وأن الوفاء شعور مقدس لا يُقدَّر بثمن، وأن من يمنح قلبه بلا شروط، يستحق أن يُحفظ كما يُحفظ الأمانة. أخذوك لأنهم عبيد للمصلحة، لا للوفاء، لأنهم لا يعرفون أن من يحب بلا خوف، بلا تحفظ، بلا قيود، يمنح ذاته كاملة، روحه، وأعمق أسراره، وأن من لا يقدّر هذا العطاء يستحق أن يُترك خلفك في غبار الخيبة.
كم مرة وثقت بهم؟ كم مرة فتحت لهم أبواب حياتك على مصراعيها، وكم مرة اكتشفت أن حضورهم أضعف من ظلهم؟ كم مرة شعرت بأن روحك تمشي على حبال من زجاج، وأن كل خطوة نحوهم كانت مغامرة في بحر من الغدر؟ خذلوك، يا قلبي… نعم، ولكن ليس لأنك ضعفت، بل لأنهم لم يعرفوا قوة قلبك، ولم يدركوا حجم الوفاء الذي زرعوه فيك بلا مقابل، ولم يعرفوا أن الحب الحقيقي لا يُهدَر، ولا يُستبدل بلامبالاة أو غياب.
خذلوك… وكان الألم سيدك، وكان العتب رفيقك، وكان الحزن مسرح روحك. شعرت بالخيانة تتسلل بين ضلوعك، وكأن كل نبضة كانت تهمس لهم: “هل تعرفون ما فعلتم؟” ولكنهم لم يسمعوا، لم يشعروا، لم يبالوا خذلوك، يا قلبي… ولكنك لم تُمحَ، لم تُهزم، بل أصبحت أقوى، أعمق، وأكثر وعياً بما يعنيه أن يكون القلب صادقاً، وأن يكون العطاء بلا مقابل ليس ضعفاً، بل شهادة على عظمة روحك التي لا يعرفها إلا من يستحقها.
خذلوك… ولكن دع قلبك يرفع رأسه، دع روحك تنتفض، دع دموعك تكون مطراً يغسل الجراح، لا سجناً للوجدان.
دع العتاب يكون ناراً تطهر، لا سجناً يُكبل. خذلوك… نعم، لكنهم لم يأخذوا منك حلمك، لم يسلبوك كرامتك، ولم يستطيعوا أن يطفئوا نورك الداخلي، الذي ينمو في صمت كل جرح، وكل خيبة، وكل ألم. خذلوك… ولكنك اليوم أقوى، أكثر معرفة، أكثر استعداداً لأن تميز بين من يستحق حبك وبين من يمر مرور الكرام، وبين من سيبقى في قلبك خالداً وبين من يرحل كريح عابرة.
خذلوك، يا قلبي… ومع كل خذلان، تعلمت أن الحب الحقيقي لا يضيع، وأن الوفاء لا يُعرف إلا عند التجربة، وأن العطاء بلا مقابل ليس هزيمة، بل شهادة على عظمة روحك، على قوة مشاعرك، على نقاء قلبك الذي لم يعرف الرياء. خذلوك… لكنك لم تفقد الأمل، لم تفقد الفخر بذاتك، لم تفقد الإيمان بأن هناك من يعرف قيمة قلبك ويقدّر عمق حبك، وأن هناك من يظل على العهد، لا يغادر إلا حين يُستحق الرحيل.
خذلوك… نعم، ولكن دع الماضي خلفك، دع العتاب يظل صدى بعيداً، ودع الحب الحقيقي يجد طريقه إليك حين يكون الوفاء عنوانه، حين يكون القلب مأوى للحقيقة، حين لا يجرحك أحد لأنك أصبحت حصناً لمن يستحق قلبك العظيم. خذلوك… نعم، لكنك باقٍ، أنت حاضر، وأنت أعظم من كل من لم يعرفوا معنى الوفاء، وأكبر من كل من لم يقدّروا عمق حبك الذي لم يُقابل إلا بالخيانة.
خذلوك، يا قلبي… ولكنك اليوم تنظر إلى نفسك في المرآة، وترى أنك صامد، ترى أنك أعظم من كل وعد كاذب، ترى أن روحك نورها لا يخبو، وأن قلبك رغم كل خذلان لا يزال ينبض بالصدق، ينبض بالحب، ينبض بالعطاء لمن يستحق، ينبض بالوفاء لمن عرف قيمته.
خذلوك… نعم، ولكنك لم تُسلب منك الحياة، ولم تُسلب منك عظمتك، ولم تُسلب منك القدرة على الحب. خذلوك… ولكنك اليوم تعرف أن الخذلان درس، والفقدان معلم، والوجع مرشد نحو النور، نحو من يستحق أن يكونوا في قلبك.
خذلوك… ولكن الآن، يا قلبي، أصبح لك الحق أن تحب بلا خوف، أن تعطي بلا قيد، أن تثق بمن يستحق، أن ترفض من لا يعرف معنى الوفاء.
خذلوك… نعم، ولكنك اليوم أعظم، اليوم أقوى، اليوم أكثر حكمة… واليوم، يا قلبي، أنت حر، حر من كل خذلان، حر من كل ألم، حر لتعيش، تحب، وتنتظر من يستحق قلبك العظيم.








