من جبال سرار إلى قلب العروض.. شهادتي على يوم أذهلت فيه يافعُ العالم

بقلم: صالح البخيتي

لم تكن تلك اللحظات التي تحركت فيها قوافل مديرية سرار يافع، في خيوط الفجر الأولى، مجرد انطلاقة لفعالية جماهيرية عابرة، بل كانت إيذاناً بانفجار طاقة إنسانية وسياسية تراكمت في صدور الرجال كالحمم تحت الصخور. إن الكتابة عن مليونية عدن الأخيرة، من وجهة نظر مشارك وشاهد عيان، تفرض علينا تجريد المشهد من لغة الأرقام الجافة والارتقاء به إلى فضاء المعنى؛ حيث يتحول الزحف الشعبي من مجرد حركة بشرية إلى “فعل وجودي” يعيد رسم خارطة القوى على الأرض. لقد خرجنا من سرار، تلك المديرية التي تنام على أكتاف التاريخ، ونحن نحمل يقيناً بأن ما سيحدث في العاصمة عدن لن يكون مجرد تجمع، بل هو استفتاء شعبي حاسم على إعلان دولة الجنوب كاملة السيادة، وهو المطلب الذي بات قاب قوسين أو أدنى، ولا محال فيه.

على طول الطريق المتعرج الذي يربط ذرى جبال يافع بسواحل عدن، بدت الجغرافيا وكأنها تتنفس بصوت واحد. لم نكن في موكب سرار وحدنا، بل كنا جزءاً من نهر بشري عظيم بدأ يتشكل مع كل منعطف جبلي. هنا تلتحم قوافل لبعوس بقوافل الحد، وتتعانق حشود يهر بجموع المفلحي ورصد وسباح، لتذوب المسميات المناطقية الصغرى في بوتقة “يافع الكبرى”. كان المشهد مهيباً لدرجة تجعلك تشعر بأن الجبال نفسها قد قررت أن تترك أماكنها لتمشي صوب البحر، حاملةً معها عبق النضال وصلابة الانتماء. لقد كان الطريق بحد ذاته “مدرسة للوعي”، حيث تبادلنا الحكايات والزوامل والأحلام، ورأينا في أعين الشيوخ وقاراً لا يكسره تعب الرحلة، وفي حماس الشباب وقوداً لا تنطفئ جذوته.

حين اقتربت طلائع الزحف من العاصمة عدن، بدأت ملامح “الذهول” ترتسم على الوجوه. لم تكن عدن هذه المرة تستقبل مجرد وفود، بل كانت تحتضن “طوفاناً” حقيقياً. لقد امتدت طوابير المركبات والحشود لمسافات تعجز العين عن حصرها، وفي كل متر كان هناك علم يرفرف، وحنجرة تهتف، وقلب ينبض بالحرية. إن الوصول إلى ساحة العروض بخور مكسر كان اختباراً حقيقياً لقدرة المكان على استيعاب “الإرادة”. وبحكم مشاركتي المباشرة، لمستُ تلك اللحظة الفارقة التي أدرك فيها الجميع أن الساحة التاريخية قد ضاقت فعلياً بجموع يافع والجنوب، ليفيض البشر في الطرقات والشوارع، في لوحة بشرية أكدت أن ساعة الصفر لاستعادة الدولة قد دقت، وأن إعلانها هو الاستحقاق الوحيد الذي يقبله هذا الميدان.

ما يميز هذا الحشد اليافعي الهائل ليس فقط عدده، بل “انضباطه الواعي”. لقد رأيت قيادات عسكرية وقبلية وفكرية تسير وسط الغبار، تلتحم مع المواطن البسيط في خندق واحد. حضور شخصيات بوزن الشيخ عبدالرب النقيب، والعميد ديان الشبحي، والدكتور بسام الطالبي، لم يكن حضوراً بروتوكولياً، بل كان حضوراً ميدانياً يتقاسمون فيه مع الناس حرارة الشمس وعطش الطريق، مؤكدين أن القيادة والقاعدة على قلب رجل واحد في معركة المصير نحو إعلان الدولة.

إن الرسائل التي بُعثت من تحت أقدام الحشود كانت شديدة الوضوح والصرامة. حين تهتف تلك الآلاف بفك الارتباط، فهي لا تمارس الترف اللفظي، بل تعلن عن خيار “جذري” لم يعد قابلاً للمساومة أو الالتفاف. إن يافع، بمديرياتها الثمان، قد وضعت العالم والإقليم أمام حقيقة لا يمكن القفز عليها: إن إعلان دولة الجنوب هو المطلب الذي توافقت عليه الإرادة الشعبية، وهو حقٌّ سيُنتزع انتزاعاً ولا مجال فيه للتراجع.

بصفتي ابناً لسرار يافع، أقول إن ما رأيته هو “بعث جديد” للروح الوطنية. لقد أثبتت يافع أنها المدد الذي لا ينضب، والعمود الفقري الذي يستند إليه الجنوب. إن خروج يافع بهذا الثقل يعني أن إعلان الدولة ليس مجرد شعار نخبوي، بل هو مطلب وجودي تتوارثه الأجيال. وفي خضم هذا الزحف العظيم، وبعد أن أدينا واجبنا في نقل الرسالة والالتحام مع الحشود، عدتُ برفقة عدد محدود من الرفاق، بينما ظل الموكب العظيم، بكل ثقله وزخمه وهيبته، مرابطاً في الساحات، ثابتاً في الميدان كرسوخ جبال سرار. إن بقاء الموكب مرابطاً يعكس النفس الطويل لهذا الشعب، ويعطي دلالة واضحة بأننا لم نأتِ لمجرد التقاط الصور والمغادرة، بل جئنا لنبقى، لنحرس الحلم، ولنؤكد أن الروح التي سكنت ساحة العروض هي روحٌ أبدية لن تبرح مكانها حتى يرفرف علم الدولة المستقلة فوق كل مؤسسة جنوبية.

لقد تكلّم الجبل بلسان يافع، وأصغى البحر في عدن، وسمع العالم صدى الهتافات التي لا تقبل القسمة على اثنين. عودتنا مع البعض، وبقاء الموكب الأكبر مرابطاً، هو تلخيص لواقع النضال الجنوبي؛ حيث يسلم الثائر الراية للثائر، ويبقى الميدان عامراً بأهله. إننا نعيش لحظة تاريخية كبرى، فجر الاستقلال الذي بات وشيكاً، طالما أن خلفه رجالاً كرجال يافع، يطوعون المستحيل ويصنعون التاريخ. سيعود أبناء يافع إلى قراهم يوماً ما، لكنهم لن يعودوا إلا وقد زرعوا في قلب عدن شجرة الاستقلال التي ستحمي ظلالها الأجيال القادمة. لله دركم يا رجال يافع بمديرياتكم الثمان، لقد أذهلتم العالم بوعيكم، وأخجلتم المتربصين بثباتكم، وأكدتم أن الجنوب دولة وشعباً حقيقةٌ واقعة لا محال فيها.

مشــــاركـــة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى