فك الاشتباك بين التوهم والواقع في قصة “قسم كاذب” لسالم فرتوت


د/ سعودي علي عبيد

في قصة سالم فرتوت الموسومة بـ “قسم كاذب” نحن أمام أسرة مكونة من زوج وزوجة وعددٍ من الأطفال. وفي الظاهر يؤكد لنا الزوجان – كل واحد من جانبه – أن علاقتهما الزوجية والعاطفية تسير على أحسن ما تكون. ومن أجل زيادة تأكيد حالة الحب بينهما، فقد اختارا أسلوباً معينا لكي يؤكد كلُّ واحدٍ منهما حالة الحب والعاطفة تجاه الآخر. وهذا الأسلوب متعارف عليه في الحياة الاعتيادية في مجتمعنا، ونقصد بذلك الأسلوب “القَسَمَ”، أي أداء اليمين أو “الحلف”. وهذا “القَسَم” يأخذ أشكالاً مختلفة عند الأفراد. وتتدرج هذه الأشكال من القسم ببعضهم، ويرتفع إلى القسم بالأولياء والأنبياء، وينتهي بالقسم بالذات الإلهية “الله”.
وعندما ننتقل إلى الحالة التطبيقية التي من خلالها أراد الزوجان أن يؤكدا حبهما الواحد للآخر، نجد أن هذا الأسلوب قد أخذ الشكل اللفظي المتجسد في القسم، أي أداء اليمين من قبل الزوج والزوجة.
فعندما طلبت “الزوجة” من زوجها أن يؤكد حبه لها، وذلك أن يقسم لها بشيء عليه القيمة، فكان رده أن أقسم قائلاً: “أنت أغلى شيء وأكبر قيمة عندي”. إلا أنها كانت ترغب أن يقسم لها بالله. ولكن الزوج أصرً أن يقسم بعينيها ورأسها وحياتها، وذلك كما جاء في سياق هذه القصة.
وعندما أتى دور “الزوج” ليسأل زوجته عن حبها له، فإنها لم تنتظر مطولاً حتى يطلب منها أن تأكد له حبها، بل ردت على الفور قائلة: “أقسم بالله وليس برأسك إني أحبك”.
وإذا قارنا بين القسمين، فإن القسم الذي صدر من “الزوجة” يكون هو الأقوى والمقبول دينياً واجتماعياً.. وذلك في الظاهر بالطبع، أما الذي في القلب، فلا يعلمه إلا صاحبه.
وليقين الراوي – وهو القاص في الوقت نفسه – أن الأسلوب اللفظي لن يكون كافيا لاقتناع كل من الزوج والزوجة، وبالتالي اقناعنا بوجود وتوافر هذا الحُبَّ والعاطفة والحنان عند كل من الزوجين، لذا فقد ذهب الراوي إلى اختراع أسلوب آخر بغرض إثبات وجود الحب عند الزوجين الواحد نحو الآخر..
ويعني ذلك أن الأسلوب الآخر – الخاص بإثبات حب الزوجين الواحد للآخر. لا بد أن يتجاوز الكلمات والألفاظ التي تم ترجمتها في الاسلوب الأول، ونعني بذلك القسم أو حلف اليمين، أو ما أطلقنا عليه بـ”أسلوب تأكيد الحب بين الزوجين”.
ويعني ذلك أيضاً، أن الكلمات المتجلَّية بالقسم بحياة ورأس وعيون وما في حكم هذه الأشياء، أو حتى القسم بما هو أعظم من الأشياء التي ذكرناها، وهو ما ذهبت إليه الزوجة عندما أقسمت بـ”الله”، لم يعد لها مكان أو حاجة أو قدرة أو قوة على إثبات “الحب” و”الأمانة الزوجية” و”المصداقية”.
فما هو نمط أو أسلوب الفعل والممارسة الذي اختارها كل من “الزوج” و”الزوجة” لكي يثبتا حُبَّ الواحد للآخر؟؟ أو بالأصح ما هو نمط أو أسلوب الفعل والممارسة الذي اختارها “الراوي” أو القاص لكي يثبت فيه ومن خلاله حُبَّ الزوج والزوجة الواحد تجاه الاخر؟؟
وكما عرفنا من خلال متابعتنا لمجريات هذه القصة، أن تأكيد حُبَّ الزوجين الواحد للآخر لم يحتاج سوى عدداً من الكلمات للتعبير عن هذا الحب، حتى وإنْ تطَّلَب ذلك أن يقسم أحدهما أو كلاهما بالذات الإلهية زيادة في تأكيد وجود هذا الحب في داخل كيان كل واحد منهما، وذلك كما تعرفنا على ذلك من سياق هذه القصة.
أما بالنسبة لأسلوب إثبات حُبَّ الزوجين الواحد للآخر، فإنَ ذلك بحاجة إلى فعل وممارسة من قبل كلَّ من الزوج والزوجة… فكيف كان الأسلوب الذي اختاره “الراوي” أو القاص؟؟ أو بمعنى آخر ما هو الفعل والممارسة التي صدرت من قبل الزوج والزوجة للوصول إلى النتيجة المرجوة؟؟
ولكي يدعم الراوي أو القاص بقوة تأكيد الزوجين لحبهما الواحد نحو الآخر، فقد عمل على إعطاء جرعة إضافية لذلك التأكيد من خلال موقفين اثنين، صدرا من قبل كلَّ من الزوج والزوجة:
* موقف الزوج: وذلك عندما قال مخاطبا زوجته ذات مرة: “إذا متُّ يا حبيبتي، فلكِ أنْ تتزوجي بعدي”، وذلك تعبيراً عن حُبَّه الكبير لها، وأنه يتمنى لها السعادة حتى وإنْ كانتْ ستنتقل إلى أحضان شخص غيره بعد مماته، ما دام ذلك سيسعدها.
* موقف الزوجة: وقد تمثَّل في ردها على موقف زوجها المذكور آنفا، وذلك عندما ردتْ عليه بامتعاضٍ قائلة له: “إن شاء الله أموتُ قبلك، وهيهات أن يمسسني بعدك أحد حتى إذا طلقتني”.
وفي موقفين إضافيين لتأكيد هذا الحُبُّ من قبل الزوجين، نجد الزوج مخاطباً زوجته بغرض قياس المستوى الذي وصل إليه حبها له، وذلك عندما طلب منها ممازحاً: “اسمحي لي أنْ أتزوج بأخرى!!”… وقد كان ردها مدوياً ومجلجلاً، وذلك عندما قالت له: “الويلُ لكَ ولها”…والمعنى مفهوم واضح ليس بالنسبة لهذا الزوج فقط، ولكن لكل الأزواج..
شكل (1): يوضح الأسلوب الأول: تأكيد الزوجين لحبهما

الزوج

الزوجة

 

ولئن أسلوب الإثبات لا بد أن يكون واقعاً وحقيقة ساطعة لا تحتمل الشك. ولذلك فقد اختار الزوج أسلوب الإثبات الخاص به لكي يؤكد حبه لزوجته، التي حلف وأقسَمَ بحياتها ورأسها وعينيها، وذلك عندما قرر أن يعود من سفره أو رحلته إليها قبل الموعد الذي حدده لها. أي قبل يوم واحد من الموعد الذي اعتقدت أنه سيعود إليها فيه. فبقدر اشتياقه للقاء حبيبته، فلابد أنها هي الأخرى كانت مشتاقة للقاء حبيبها إن لم تكن أكثر منه اشتياقاً إليه، أو هكذا أعتقد أو توًهم!!!
وفي الوقت الذي رأينا أن تأكيد الزوجين لحبهما قد التقيا عند نقطة معينة، وهي أداء القسم من قبل كل من الزوج والزوجة، حتى وإن اختلف قسم كل واحد منهما من ناحية القوة والمصداقية، فإننا نجد أن أسلوب إثبات كل من الزوج والزوجة قد اختلفا وتعاكسا وتصادما. والسؤال هو كيف؟؟ ولماذا؟؟

أما كيف؟ فيمكننا توضيح المسألة على النحو التالي:
فبالعودة إلى سياق هذه القصة نجد أن التعاكس والاختلاف والتصادم بين أسلوبي إثبات حب الزوجين الواحد نحو الآخر قد تجلَّى من خلال فعلِ وممارسةِ الزوجين لإثبات حُبَّ الواحد للآخر.
* فالزوج قد عبَّر عن حُبَّهِ لزوجتهِ من خلال عودته من مهمته التي سافر وترك بيته وزوجته من أجلها في وقت يسبق الموعد التي كانت تعلمه الزوجة بيوم واحد. ومن المؤكد أنَّه بهذا التصرف أراد أنْ يثبت لزوجته مدى الحٌبَّ الكبير الذي يختزنه ويكنه لها في داخله.
* أما الزوجة فقد عبَّرتْ عن إثبات حُبَّها لزوجها بطريقة دراماتيكية تماما ومختلفة كليا عن الأسلوب الأول الذي أكدت فيه حبها لزوجها، وذلك كما تعرفنا على ذلك سابقاً، وذلك عندما أقسمت بالله لزوجها أنها تحبه، وأنها تتمنى أن تموت قبله، وأنه هيهات أن يمسسها شخص غيره بعده حتى وإنْ طلقها.
ومرة أخرى، وبالعودة إلى سياق القصة، نجد أن الزوجة قد أخفقتْ في إثبات حبها لزوجها، وذلك عندما أقدمت على خيانته بجلب رجلاً آخر إلى فراش الزوجية، بل وكانت مستعدة لقتل زوجها الذي أقسمت بالله أنها تحبه.
أما الإجابة على “لماذا؟” فيمكننا تفنيد ذلك على النحو الآتي:
فإذا عدنا إلى سياق القصة، وخاصة إلى العلاقة بين أسلوبي تأكيد الزوجين لحبهما وأسلوبي إثبات حبهما، فإننا سنستخلص الآتي:
(1) إنَّ الأسلوب الأول الخاص بتأكيد كلَّ من الزوج والزوجة على حبهما الواحد للآخر، قد أخذ الطابع اللفظي الذي تجَّسدَ من خلال قسَمِ أو أداءِ اليمين من قبل الزوجين، وذلك كما تعرفنا من سياق القصة وهذه القراءة.
(2) إنَّ شكل ومضمون قَسَم كل من الزوجين قد اختلفا من ناحيتي القوة والعادة. ومن خلال المقارنة بين “القسمين”، نرى أن الكفة تميل لصالح الزوجة وإن كان في الظاهر فقط.
(3) إنً الأسلوب الآخر الخاص بإثبات كلٌ من الزوجين حبهما الواحد للآخر، قد أخذ الطابع العملي والتطبيقي الذي تجسد من خلال السلوك الذي اختاره كلٌ واحدِ منهما، وذلك كما تعرفنا من سياق القصة وهذه القراءة.
(4) إنَّ أسلوب الزوج حُبَّه لزوجته – المتمثل في القسم أو أداء اليمين الذي تلفَّظَ به – كان منسجماً ومتوافقاً ومتطابقاً مع أسلوب إثبات حُبَّه لزوجته، المتمثل في عودته إلى منزله وزوجته كما وعدها، بل حتى عودته قبل الموعد الذي حدده لزوجته، أي أنَّه قد برَّ بيمينه وقسمه والعكس صحيح.
(5) إنَّ أسلوب تأكيد الزوجة حبها لزوجها – المتمثل في قسمها وأداء يمينها بالله – لم يكن منسجماً أو متوافقاً أو متطابقاً مع أسلوب إثباتها لحبها له، المتمثل في خيانتها له من خلال جلب ذلك العشيق إلى منزل الزوجية، بل وأرادت أن تقتله بالتعاون مع ذلك العشيق والعكس صحيح.
شكل (2): يوضح الأسلوب الثاني: اثبات الزوجين لحبهما

الزوج

وإذا تساءلنا هل قصة “قسم كاذب” لسالم فرتوت من النوع الفنتازي أو هي قصة واقعية؟؟ فمن المؤكد أن الإجابة هي أنها – قصة – واقعية مائة في المائة. وأنها حدثت وتحدث كثيراً في المجتمعات المتقدمة والمحافظة على السواد.
وإذا تساءلنا كذلك عما قدمه لنا القاص المتميز سالم فرتوت من خلال قصته “فسم كاذب”، ؟؟؟
يمكننا القول أن سالم فرتوت لم يفعل سوى انه فك الاشتباك بين “التَّوهم” و”الواقع”.
أي التوهم أن كل ما ينطق به يمكن أن يتحول إلى/ أو يجب أن يتحقق واقعاً. وان التَّوهم أنَّ كلَّ “قَسَمٌ” أو “يمين” نحلفه للآخرين هو بالضرورة بمثابة عقد أو ميثاق لا يحتمل مطلقاً النكوث به.. والتوهم أن “القسم” أو “حلف اليمين” بالله وبكل ما وراء الطبيعة بكل ما يفترض أن تحمله هذه الأشياء من تخويف وردع، كفيلة بشكل قاطع لمنعنا وزجرنا عن عدم نسيان ذلك القسم أو اليمين عندما نقرر إهمال ونسيان ذلك اليمين أو القسم، وذلك كما فعلت “الزوجة” في قصة “قسم كاذب”، وكما يفعل الكثيرون في كل لحظة من لحظات هذا الزمن، او كما توَّهمَ “الزوج” في هذه القصة أنَّ قَسَمَ ويمينَ زوجته ضمانة مؤكدة على إخلاصها له، ولكنه اكتشف بالدليل القاطع أنه لم يكن سوى ذلك الواهم والمتوهم في الوقت نفسه.

الدكتور سعودي علي عبيد
سبتمبر 2023م

مشــــاركـــة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى