يـــــــمـــــان.. قصة قصيرة

محمد عكف

✍🏽مــحــمــد عــكــف
يونيو2024

لم يتبق إلا هذه النخلة، شامخة في الداير بوسط البيت (الزرب)، بينما قريناتها الخمس النخلات التي كانت حول البيت قد ذوت وسقطت وباتت أعجازا خاوية.

وقفت أم يمان تحت النخلة تستظل، وتستريح قليلاً من عناء كنس الداير الممروج بالطين ، وهي متأبّطة مكنسة من السعف، وحاسرة ثوبها لنصف ساقيها، وربطته من وسط بطنها، وجعلت تمسح بعقب كفها قطرات من العرق ممزوجة بالغبار قد خطت على جبينها، ثم جالت بنظرها تتفحص جذع النخلة صعوداً وهبوطاً!

كانت خطوط النمل الأسود والأحمر والأبيض تجري مسترسلة بهمة ونشاط من أسفل النخلة إلى أعلاها ومن أعلاها إلى أسفلها تحمل نُتفا بيضاء صغيرة، وفي أعلى النخلة قد حط سرب من الغربان، يتصاعد نعيقه وكأنه يتداعى خائفا على أعشاشه في قلب النخلة.

قالت أم يمان تخاطب نفسها:
-لقد ازدادت السعفات المتيبسة والمتدلية! فلم تعد النخلة تقوى على حجب أشعة الشمس المحرقة وفضلات الطيور من الاختراق والوصول إلى أسفلها!
عاودت كنس ماتبقى من الحوش، فسرح بها الخيال بعيداً، وتذكرت ليلة زفافها حين زُفت على هودج قد وضع فوق ظهر بعير بعد أن أناخه لها والدها رحمه الله وساعدها على الجلوس فيه، وكيف أطلق من بندقيته (الكندة) ثلاث طلقات تعشيرة في الجو.

تذكرت المرحوم بو يمان وتذكرت غيرة يمان منذ صغره .
فهاهو قد كبر وتعاظمت غيرته عن ذي قبل، فأمه لم تزل في عنفوان شبابها ويفضل الموت على أن يراها تزف لغريب.

فكان لزاماً عليه أن يؤمِّن لها معيشتها ويكفيها الحاجة، فحين خرجت قافلة خاله عبدالله، خرج معها مهاجراً بعد أن ودَّع أمه، وطمأنها ببلوغه السادسة عشر من عمره فما كان منها إلا أن هيأت له ميرة لسفره.

فطاف بعينيه الصغيرتين حول البلدة في نظرة وداع وتفحُّص لكل معالمها، وكانت النخلة وكأنها تشده إليها وتجبره على النظر إليها، هي كمعلم بارز لبيته وللبلدة، وتضاءلت البلدة في أثناء المسير، ولم تلبث ترافقه سوى النخلة حتى غاب في الدروب.

سارت القافلة وسار الهم والقلق مع يمان في رحلته، فهاهي الأيام تركض مسرعة ثمانية أشهر قد مضت على هجرته القاسية لبعده وغيابه ولأول مرة وشوقه لأمه فقرر العودة ؛ لإغاثة أمه فكان القلق يساوره أكثر من ذي قبل، فحين اقترب من الوصول قبيل الغروب وقف على شفا الوادي المطل على بلدته، لم يعد ذلك المشهد حين الوداع! لقد غابت النخلة وكأن البلدة كلها غابت، فراعه صوت ثلاث (تعشيرات) في الجو، عرفها كما يعرف نفسه، لقد كانت من بندقية جده (الكندة).

فحث السير وجد في الركض، فحين اقترب من بيتهم تراءت له معالم فرح قائم، هناك ينتصب بعير قد وُضِع فوقه هودج، وحوله رجال ونسوة كل منهم مشغول بأمر ما يتجهزون للرحيل!
..يسأل بقلق أين أمي؟؟ أجابه الحادي بغلظة : (أمك قدها فوق البعير)!

أصابته الدهشة والعبرة وكاد أن ينفجر باكياً، وحاول بهستيريا إناخة البعير، ولكن الحادي منعه، واجتمع حواليه الرجال، وصدوه وكادوا يضربونه، وتجمع الأهالي، ثلة منهم مع العريس لما قدمه لهم من أعطيات، والبقية مع يمان متأثِّرة بحبه وتعلقه بأمه وظل يردد: أمي أمي ها أنا قد عدت…. ومضى البعير وركض يمان ومن معه خلفه والرجال تصدهم وتزجرهم…

مشــــاركـــة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى