ينبوع الفريط المائي كان جزءًا من ذاكرة تريم الجماعية، التي ظلت تحفظ القصص والحكايات عن مياهها الغزيرة وأثرها في حياة الناس.
كتب ـ سالم باسنبل.*
ينبوع الفريط هو عين ماء نَضّاخة كالبحيرة، تتسم بمياهها الغزيرة المتدفقة العذبة. وقد تحدث عنها الأجداد ونسجوا حولها كثيرًا من القصص التي دارت في هذا الموقع.
يمثل هذا الينبوع المائي جزءًا مهمًا من الحياة اليومية بمدينة تريم، حيث كان مصدرًا رئيسًا للمياه.
يقع هذا الينبوع في جبل الفريط، في جانبه الغربي، حيث يتدفق الماء من المنبع في أعلى الجبل، ويسيل في مجرى جبلي نحتته عوامل التعرية المائية. يمر هذا المجرى بمحاذاة الموقع الذي بُني فيه مسجد بن عتيق في جانبه الشمالي، لينحدر شرقًا ليصب في مسيل عيديد، مكونًا جدولًا كبيرًا غنيًا بالمياه، حيث يروي الأشجار المحيطة.
كان الموقع المميز لهذا المنبع يجعله نقطة أساسية لأهالي تريم في شتى استخداماتهم. فقد كان مصدرًا للمياه العذبة، حيث اعتمد الأهالي عليه في أغراضهم اليومية مثل الشرب، والغسيل، وسقي الحيوانات، إضافة إلى البناء. كما كان يساهم بشكل أساسي في الري الزراعي، مما جعله جزءًا لا يتجزأ من الحياة الزراعية والبيئية للمدينة. وكان رافدًا مائيًا مع مياه السيول التي تتجمع في رؤوس جبال عيديد المتجهة شرقًا، مما ساهم في نمو الأشجار الطبيعية والغطاء النباتي الغابي الكثيف الممتد من وادي عيديد غربًا حتى المجرى الرئيس لوادي حضرموت شرقًا.
كما كانت تعيش في هذا الوادي العديد من الحيوانات البرية مثل الذئاب، والضباع، والثعالب، والوشق، والورل، والأفاعي.
أما المدينة القديمة فكانت تتكون من حارتي الخليف والأزرة (السوق حاليًا)، وكان عمرانها محدودًا جدًا بعيدًا عن مياه مجاري السيول. كما أن معظم أراضيها الزراعية لم تُستصلح، وكانت مقبرة الموتى داخل المدينة نفسها بين العمران، بالقرب من مسجد باجرش المعروف. وقد أشار إلى هذه المقبرة الشيخ العلامة المؤرخ محمد بن عبدالله بن سليمان الخطيب في كتابه “البرد النعيم”.
وتعد مسألة نضوب عين الفريط واحدة من المواضيع التي شغلت الكثير من المهتمين والمؤرخين، حيث اختفت المياه عنها بشكل نهائي، مما أدى إلى جفاف الأرض وانحسار الغطاء النباتي في مسيل عيديد. هناك عدة أسباب لهذا النضوب، بعضها مرتبط بعوامل بشرية، وبعضها الآخر ناتج عن عوامل طبيعية.
أبرز عامل بشري في نضوب العين كان ما قيل عن معن بن زائدة، الذي تولى حكم اليمن وحضرموت أيام العهد العباسي في سنة 142 هجرية (الموافقة 759م). فقد نكّل بأهل حضرموت أيما تنكيل، وذلك انتقامًا لمقتل أخيه الفاسق الفاجر الوالي على حضرموت، وكان مقر ولايته مدينة تريم. ومن جملة معاقبته لهم سد عيون مياه الينابيع بالرصاص، وكان هذا الينبوع أحدها، مما أدى إلى قلة مياهه. وقدفقدت هذه العين بسبب هذا الفعل ما يقارب 90% من كميتها المائية في تلك الفترة الزمنية. كما أن الإفراط في استخدام المياه مع زيادة عدد السكان في تريم أدى إلى ضغط متزايد على مصادر المياه الطبيعية، مما ساهم في نضوب العين. كما أن استخدام مياه العين بشكل كبير للأغراض الزراعية أو الري أدى إلى استنفاد المخزون المائي.
ومن العوامل الطبيعية التي أسهمت في نضوب العين، المتغيرات المناخية التي أدت إلى تقليص هطول الأمطار التي كانت تغذي العين في السابق، مع انخفاض معدلات الأمطار في المنطقة بشكل عام، مما أثر على قلة المياه الجوفية التي تغذي العيون الطبيعية. كما أن العوامل الجيوهيدرولوجية مثل تراكم الرواسب أو تغيرات في تكوين الصخور تحت الأرض ساهمت في إغلاق مسارات المياه أو تغيير اتجاه تدفقها.
لقد كان لنضوب ينبوع الفريط تأثير كبير على الحياة في تريم سابقًا. فقد انخفضت كميات المياه المتاحة للسكان، مما اضطرهم إلى البحث عن مصادر بديلة للمياه مثل حفر الآبار أو الإمدادات من أماكن أخرى. كما أثر ذلك على الزراعة والنباتات الطبيعية، والحيوانات البرية، حيث أصبحت عمليات الري أكثر تحديًا.
وفي السياق الاجتماعي، كانت العين تمثل نقطة محورية للتفاعل الاجتماعي، حيث كان الأهالي يجتمعون حولها في أوقات مختلفة. وهذا التغيير أثر على هذا الطابع المجتمعي المميز الذي يمثل قصة تفاعلهم مع مصادر المياه في بيئتهم.&
٢٠٢٥/١/٨م