غزة.. أحبّاء وأحياء تحت الأنقاض
أبين ميديا/ متابعات /محمد الرنتيسي/أ ف ب
غزة ليست غزة، الرعب يحاصرها حتى وإن هدأت نار الحرب، وفي قلبها طوفان بشري، إذ إن البحث جارٍ عن آلاف الفلسطينيين الذين يعتقد بأنهم دفنوا تحت الأنقاض.
كما لا تزال أحياء سكنية تحت الركام، ثمة حارات قديمة ومنازل عتيقة باتت تحت الأنقاض، وأشجار معمّرة انضمت إلى لائحة المفقودين، وساحات انقلبت رأساً على عقب، ومناطق أثرية بدت أشلاء، والغزيّون ذهلوا من هول ما رأوا، إذ تغيرت معالم الميادين التي اعتادوا الجلوس بين أحضانها، وتهاوت شرفات منازل أثرية كانت تطل على تاريخ عريق، وثمة شوارع بدت خاوية بلا شجر أو حجر أو بشر.
ما يزيد على مليون ونصف المليون نازح قصدوا غزة ورفح وخانيونس ودير البلح، يسود لديهم الاعتقاد بأنها خرجت بالفعل من حلقة النار، لكن في حقيقة الأمر، بؤس الحرب لا زال يداهمها، قد تبدو الشوارع هي ذاتها، بتفرعاتها ومعالمها.
لكن روحاً غير مألوفة بدت ترفرف من حولها، إذ ضاقت مساحتها، وكبرت همومها، لدرجة بدت مثقلة بهموم تكاد تلمس بالأيدي، لكن غزة كلما ضاقت بدمار الحرب، اتسع قلبها للعائدين إليها، كي تبدأ رحلة البناء ومسيرة الإعمار.
غزة ليست جميلة مع ركام الحرب، لكنها اليوم تفرد ذراعيها لتستقبل حشود النازحين الذين جاؤوا يطلبون الأمن والأمان فيها، ويستطلعون أحوالها وما حل بها، فوجدوها على غير عادتها، مآسي الحرب بادية على وجهها، لكنها ماضية في طريقها كي تستعيد ألقها وعافيتها، بعد كل ما أصابها.
شوارع ميتة
المحال التجارية بدت مفتوحة، لكنها دون أبواب ولا زبائن، ومقاهي غزة التاريخية التي كانت تعج بروادها في فصل الشتاء، بدت «بلا أنفاس» وضيوفها غابوا عن الموعد، فهم حتى الآن غير مصدقين أنهم خرجوا سالمين من ليالي الجنون والقصف الهستيري.
وأكثر ما كان مؤلماً ويبعث على الحزن، مشهد تهاوي البنايات الأثرية التي تجسد التراث المعماري الفلسطيني القديم، وأسلوب الحياة الفلسطينية منذ قرون، وكأن لسان حال أهل غزة يقول: «الحرب وضعت أوزارها، لكن من سيعيد لنا تراثنا الذي طمست معالمه، وتحول إلى أنقاض وذكريات؟».
الحياة بدأت تنهض، وإن بإيقاع بطيء، ولا شغل لأهل غزة، بعد إسدال الستائر على الحرب، سوى البحث عن مستقبلهم، إذ عادت أوضاعهم الصعبة لتفرض نفسها، فتداعيات الحرب سجلت أهدافاً ثقيلة في واقع حياتهم.
منازل تبخرت
«بعد عجقة الحرب، بدأنا نبحث عن أي شيء يعيننا على تحمل أوضاعنا البائسة، فالحرب لا زالت تخفي الكثير من الوجع في قلوبنا» قال مدحت مراد، منوهاً إلى أن المشهد في قطاع غزة يشبه «يوم الحشر» فالشوارع تختنق بالناس الذين لا مأوى لهم.
يوضح لـ«البيان»: «غالبية النازحين العائدين نشروا صوراً لركام منازلهم، إلا نحن، فلا بيت ولا ردم ولا ركام ولا حتى حجارة، البيت ذو الطوابق الثلاثة تبخر، كأن الأرض انشقت وابتلعته.. ربنا يعوضنا بخير منه، والحمد لله على سلامة أهلي».
صديقه محمـد المقوسي بدا مصدوماً أيضاً، فحتى ركام بيته ليس له أثر، وغالبية أصدقاء طفولته قضوا في الحرب، ويبدو بابتسامة تخفي خلفها كثيراً من الوجع، غير مصدق ما جرى.
وحتى المنازل التي ظلت «واقفة» لم تعفها الحرب من التصدع والاهتزاز، وشيء من الدمار، ولكن أين المفر؟.. أعاد أهلها إنعاشها بما تيسر، ففي قبضة الحرب والبرد، المنزل المتهاوي أفضل من الخيمة وزمهريرها.