قطعة من بلدي..وصاحبها أبو جناح في كتاب الباحث الأمريكي فلاك ميلر

ابين ميديا/ د. علي صالح الخلاقي

العم الفقيد علي محمد بن علي الحاج الحوثري (أبو جناح) شخصية إجتماعية وشاعر ومناضل وطني، التحق ضمن الرعيل الأول للمناضلين ضد الاستعمار البريطاني، وبعد الاستقلال انكفأ في عمله الخاص الذي ارتبط به طوال حياته، والمتمثل بمحل (قطعة من بلدي) للتسجيلات الصوتية الذي يعد معلماً فنياً من معالم كريتير –عدن، حيث يقع في قلب المدينة، وفي شارع الميدان حيث تكثر حركة الناس وتجمعاتهم.. وكان هذا المحل أشهر من نار على علم، فقد ارتبط ببيع اشرطة الكاسيت حينما كانت هي الوسيلة الأكثر انتشاراً لنقل الأغاني، حيث كان يتوافد إليه زوار من مختلف المناطق ممن يأتون لقضاء حوائجهم في عدن فيعرجون على (قطعة من بلدي)، لاقتناء الأشرطة الجديدة للفنانين الشعبيين الذي يغنون أشعار الشعراء المشهورين والمحبوبين إلى قلوب الجماهير، وكان هذا المحل المنتج الرئيسي لأشرطة القصيد والشعر اليافعي ومنه يتم توزيعها إلى كافة المحلات الأخرى سواء في يافع أو في أي مكان آخر من أنحاء اليمن، شمالاً وجنوباً.
وأعترف أنني حينما قمت بتأليف كتابي (أعلام الشعر الشعبي في يافع) كنت أتردد على العم علي مراراً واشتري منه عدداً من الأشرطة للفنانين والمطربين الشعبين الذين غنوا للشعراء المتوفين، وحينما كنت أحصل على ضالتي بنقل القصائد المطلوبه كنت أعيد له الأشرطة التي تصل أحياناً إلى عشرة اشرطة فأشتري بديلاً عنها أشرطة أخرى لعلي أحصل على أية قصيدة لشاعر لم أشمله في كتابي، وكان رحمه الله يساعدني كثيراً وفتح لي صدره وقلبه قبل محله، لإدراكه قيمة العمل التوثيقي لنتاجات الشعراء الشعبيين وهو الذي سخر وقته لحفظ وتوثيق تراثنا وموروثنا الفني، وكان يساعدني في اختيار الأشرطة التي سأجد فيها ما أبحث عنه..
ولقد أحسن صديقي الباحث الأمريكي فلاك ميلر أن تحدث عن هذه الشخصية المحبوبة ودورها التنويري من خلال عمله في محله الشهير (قطعة من بلدي) الذي يعد المحل الأقدم والأنشط في عدن دون أدنى منازع أو خلاف، وبسبب نشاطه الكبير غدا أسطورة في نظر معجبي الغناء والشعر اليافعي سواء على مستوى اليمن أو الخارج، وتعطي اللمحة السريعة التي نقدمها حول المحل ومالكه عرضاً موجزاً عن صناعة وإنتاج الشريط اليافعي كمحل نشأ في موقع استثنائي وكان غرضه الأول الإصلاح الاجتماعي.
وهذا المحل الذي يملكه السيد علي محمد بن علي الحاج (أبو جناح)، تم افتتاحه سنة ١٩٦٨م، أي بعد الاستقلال الوطني بعام واحد فقط، وكان غرض بن علي الحاج إصلاح ما خلفته الصراعات الداخلية من مساوئ وما رافقها من أخطاء بعد الاستقلال تبنتها عناصر يسارية منطوية تحت أجنحة الجبهة القومية، وراح ضحيتها عدد من عائلات المشايخ والسلاطين والشخصيات القبلية والتقليدية المتعلمة ، وكان الحاج وعائلته ضمن ضحايا هذه الأخطاء، حيث كان أبوه قاضياً بارزاً في مكتب الموسطة (يافع بني مالك)، وهو رجل اجتماعي وشيخ ديني فاضل ذو علم واسع تحصل على دورات تدريبية مكثفة في الفقه الإسلامي في تريم (حضرموت) ثم في القاهرة، ولما تم تدمير كل هذا العمل القانوني والدور الإصلاحي والاجتماعي للعائلة، تم تجريد أبيه من رتبته القضائية، وتمرير قرار يفضي إلى إلقاء أي عقد أو وثيقة قانونية وقعها من سابق، وعندها تكونت لدى الحاج وكان لا يزال شاباً طموحاً مشاعر الامتعاض ، فغادر وعائلته إلى عدن بحثاً عن فرصة عمل أفضل لكسب لقمة العيش، وبكونه غير قادر على مواصلة طريق والده كرجل قانوني بحث الحاج عن طريق جديد يستطيع من خلاله مواصلة التزامات عائلته الطويل في أعراف المجتمع وخدمته.
ولقلة حيلته في شراء شقة بعدن ولو صغيرة، باع الحاج ميراثه لأخية الذي بقى في يافع، وهي قطعة زراعية صغيرة من أرض العائلة.
اضطر الحاج إلى استئجار غرفة صغيرة تشرف على ساحة مكتظة بالسكان في قلب مدينة عدن، حيث يتجمع المارة المدنيون والريفيون من أجل ركوب الحافلات وسيارات الأجرة، وكان ذلك هو محله لإنتاج الأشرطة وأسماه (قطعة من بلدي) وهو اسم يُذكِّره بالورث الذي أجبر على التضحية به من أجل بدء عمله، وقد استولى على المزاج العام الحاصل وقت الاستقلال وما تم بعده.
وفي قلب مدينة عدن ومركزها الرئيسي توجد أيضًا محلات أخرى تمتلك فحوى التسمية ذاتها مع اختلاف مرجع المسمى وبواعثه، مثل: قطعة من باريس، وقطعة من نيويورك، وقطعة من لندن، ولكن يبقى عمل الحاج وتسمية محله هي المعبر الحقيقي عن الشعور الوطني الجديد فرمزيته بدت محلية تمامًا وبقت لأنها كذلك.
وبالدخول إلى المحل عبر الباب الأمامي والرئيسي، يشاهد الزبون ملصقاً كبيراً لجسر (روزفلت) الواقع في مدينة نيويورك، ويُستخدَم أحيانا كستار خلفي في الاستيديو أثناء التصوير و ككسوة تقليدية للموسيقيين والشعراء والشخصيات الاعتبارية اليافعية الذين يريدون التصوير مع شعار كبير لعاصمة عالمية مبجلة جداً، كما تظهر ستائر خلفية لاصقة تتضمن مشاهد طبيعية هندية وعجائب من الدنيا، كما تتدلى عبر الجدران صور قديمة لممثلات أفلام هندية وفنانين خليجيين مشهورين، بل حتى أبو الوطنية العربية الرئيس المصري السابق جمال عبد الناصر له صورة تخليدية هنا، وبشكل مصطف وأكثر تنظيما تبرز حقائب الأشرطة التي تتدلى من أرضية المحل وحتى السقف في رفوف خشبية صغيرة ممتدة عبر سطوح الطاولات، وتتوارى في الأسفل مناضد زجاجية. فهذا المخزون الكبير من التسجيلات الصوتية ووسائل العرض يشير من الوهلة الأولى أنه مليء بالأذواق العدنية واليمنية المتنوعة التي كان يرعاها زبائن عدن لأكثر من نصف قرن، فلا ريب أن زبائن عدن سيبحثون في هذا الوسط الفني والسياسي الملفت للنظر بمخزونه التراثي القديم عن نجوم التسجيل العدنية المبكرة وفرق موال طه أمان والموهوبين الحضارم والفنانين اليمنيين اليهود، وفنانات الأوبرا المصرية، والفرق الصومالية، والموسيقيين المتجولين وموسيقى الرقص القبلي الأبيني واللحجي، والأغاني القبلية في المناطق الشمالية، مثل ،ذمار ،وخولان وصنعاء، ومأرب، حتى عن الأناشيد الوطنية القريبة الإنتاج أيام جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، وبرامج الإذاعة وأخبارها في الفترات الرئيسية من تاريخ اليمن الجنوبي، وكذا سيبحثون عن الفن الاستعراضي والكلاسيكي المعروض على التلفزيون، والنجوم السعوديين، والأغاني الشعبية الأردنية، وبي. بي. كنج ، وفرقة (البيجيز)، وثمة زبائن أُخر يبحثون عن التلاوات القرآنية والمواعظ الدينية، أو تسجيلات الأعراس المباشرة، وأحداث البال من كل زاوية في اليمن الجنوبي، إلا أن الزبون في هذا المحل وهو يواجه بمثل هذا الأرشيف التسجيلي الضخم دون أن يصل إلى مبتغاه، ربما يتوصل في الأخير إلى نتيجة أن “قطعة الأرض” التي أعطى المحل حق الوصول إليها لم تكن بأية حال من الأحوال إلا شيء بلدي ريفي. وعليه تعتبر أشرطة الغناء الخاصة بالشعر الشعبي اليافعي المصدر الأكبر لدخل المحل، وهو المهوى والمسعى الواضح للزوار على الأغلب، وقليل ما يحدث غير ذلك، فعندما وصل أحد الزبائن للاستفسار عن أنواع الأشرطة التي تباع هنا، كان الرد السريع من الحاج: “يافعي !”، وكأنها إشارة واضحة منه إلى أنها المنتج الأكثر تميزاً مع أن الزبون غادر المحل فوراً بمجرد سماعه لرد الحاج فمعظم الزبائن الذين يأتون للمحل مهتمين بالأشرطة اليافعية التي خزنت بكميات كبيرة في الرفوف القريبة، وتم ترتيبها بحسب الأهمية على المنضدة الأمامية لسهولة الوصول إليها، وقد لاحظت أن العدد الأكبر للأشرطة في هذا المحل هي النسخ المشحونة سياسياً والتي غناها عبدالناصر، وعلي صالح، وعلي بن جابر، وهي أيضاً الأبرز رؤية، وفي واقع الحال كان الطلب عليها يتزايد بشكل كبير خاصة بعد التسهيلات التي كسرت حواجز القيد التي كانت فارضة على حرية التعبير السياسي قبل الوحدة (۱۹۹۰م)، وزاد الطلب بشكل أكبر بعد الإخلالات المدنية التي أحدثتها حرب صيف ١٩٩٤م، ومن ذلك التاريخ أصبح العديد من شعراء يافع وفنانيها المشهورين يستخدمون الأشرطة بشكل مستمر ويوظفونها كمنصات إعلامية للإصلاح السياسي. وتحفز أشرطتهم رغبة الجماهير الواسعة للميل نحو الغناء اليافعي بصورة عامة، ففي عام 1998م باع محل قطعة من بلدي90٪ من الأشرطة تقريباً، وكلها أبرزت شعراء يافع وفنانيها.
أخبرني الحاج أن الطلب على الأشرطة اليافعية تزايد بشكل جيد في السنوات الأخيرة، مبيناً التزامه في تخصيص محله لأغاني الشعر الشعبي اليافعي منذ تأسيسه الأول، كون المحل يعكس بأكثر من طريق عاطفته وعلاقته الحميمية لمسقط رأسه وللشعر والفن اليافعي، ولكونه بنفسه شاعراً كما كان أبوه أيضاً شاعراً، وهو الذي علمه حرفة الشعر ونظمه، ولأن لديه ذائقة يميز بها الشعر الجيد من السيء، فقد كان الحاج يقرأ القصائد لأصدقائه بذوق ويختار الجمهور بنفسه، ويضرب أحيانا بطبل صغير ضمن أنشطته الفنية، فأثناء زياراتي المتكررة للمحل كان يسمعني الحاج القصائد. ساحباً أحياناً من الرف مجلداً مليئاً بالغبار، فينهمك في قراءة القصائد لدرجة أن الزبائن يتجولون داخل المحل وخارجه دون أن يبالي بهم أو بطلباتهم، كما كان يمتلك ذائقة نقدية، فقد أخبرني: “إنني دائماً نصيراً للكلام الفصيح وخصوصاً في القصائد المتبادلة، أحب السماع لقصيدة بدع قوية وأنتظر بترقب للرد كيف يكون؟ وكيف سيستجيب الشاعر لمثل هذا الهجوم؟ “، طبعاً لم يكن شعراء البدع القادرين على الهجوم فحسب بل قد يتطلب الأمر رداً رادعاً، ولكن الشعراء المجيدين في رأيه هم الذين يجعلون من مؤلفاتهم شريفة، ولم يشوهوا بسمعة خصومهم من خلال الإهانة والكلام السوقي الدنيء، وأفضل القصائد لديه “هي تلك التي يستطيع أن يتعلم منها الناس شيئاً ما”، كما تستطيع القصائد أن تعطي دروساً أخلاقية أو “حكمة”، ولكنها في الوقت ذاته تستطيع أن تعلم الناس عن تاريخهم وتأثيره بالحاضر، وهكذا ينظر إلى دورها الوظيفي، حيث قال:” إن الناس الذين يريدون فهم علاقات السلطة ينظرون اليوم إلى علاقات السلطة في الماضي من أجل التفسيرات، وبإمكان الشعر مساعدة الناس بالعودة للماضي”، وعندما سألته عن وظيفة الأشرطة نفسها ودورها في تمكين هذا الاستخدام للشعر، رد بكل ثقة “حسناً، الأشرطة هي مفضلة في عدة طرق على القصائد المكتوبة ، فعلى سبيل المثال عندما يكون خط اليد رديئاً فمن الصعب أحيانا أن تستطيع قراءة القصائد المكتوبة، علاوة على ذلك قد تبلى الورقة مع مرور الوقت أو تمزّق؛ لهذا تعد الأشرطة الأكثر حفظاً وقبولاً للشعر”.
أظن أن مثل هذا الكلام والوعي هو الذي جعل الحاج معروفاً ومألوفاً وراعياً أميناً للتراث الثقافي اليافعي، حتى غدا محله الملجأ الآمن الذي يزود الناس بأعراف وقيم منطقته وتقاليدها الشعرية، بل كان تعاونه مع الفنانين الأكثر نجعاً، فما يبرح مكانه وهو جالس في أوساطهم عند تسجيل المادة تشجيعاً لهم، كما يقدم لهم التوجيهات والتوصيات حول المواضيع التي يؤكدها والترتيبات الموسيقية الممكنة، فيرسلون أشرطتهم إليه بكل ثقة، ويخبرهم أول بأول عما تم بيعه وما الأفضل مبيعاً وطلباً، وكان في الغالب هو الموجه للقصائد والشعراء نحوهم وكذلك كان مع الشعراء في حالة تواصل وتعاون مستمرين، بل قد يتطلب الأمر تسجيل مقابلات معهم على الأشرطة التي تم بيعها، لهذا كان محل الحاج مفتوحاً لمجتمع كبير ومتنوع من المنتجين أو المشتركين في الإنتاج، ولم يكتف بذلك بل كان يجذب الفنانين والشعراء الهواة الأقل شهرة إلى محله، ويبيع في الأغلب أشرطتهم المسجلة في المنازل بدون عمولة تشجيعاً لهم. حقاً كان الحاج مقتنعاً غاية الاقتناع بأن الأشرطة ساهمت كثيراً في التحولات الشاملة التي طرأت على الحياة الثقافية وهذبتها نحو الأفضل، بل حفزت الكثير على ممارسة الشعر الشعبي وتذوق جمالياته على مستوى اليمن (وقد قال عن ذلك قولاً مشهوراً): “هل هناك ثمة إنتاج أكبر من هذا الشعر إذا ما قارناه بما قبل الثورة؟ بالطبع لا فالفارق كبير بل كبير جداً، وهذا يؤكد مدى الازدهار الذي وصل إليه هذا الشعر الآن”.
يعتبر الشعور بالنشاط المجتمعي واضحاً تماماً في إطار ما يسود من ود وصداقات حميمية تميز العمل في هذا المحل، ويكون المحل في الغالب مكتظاً بالزبائن عند الغداة أي مع ساعات الصباح المتأخرة، أو عند الأصيل والرواح أي ساعات المساء المبكرة، ويكون باب المحل عادةً مليئاً بالزبائن الذين يستمعون إلى عينات من الأغاني المطلوبة والمُشغلة على مكبرات الصوت التابعة للمحل، وغالباً ما تتجمع الحشود في الخارج لسماع الأشرطة التي تم إصدارها حديثا في عدة مناسبات، وتطغي العلاقات الحميمية على التجارة إلى حد ما حين تفسح الأخيرة للأولى مجالاً للحديث الجانبي من أجل إعادة أواصر الترابط الاجتماعي بين المعاريف والمغتربين الذين عادوا للوطن كزيارة، أو مع القدماء الذين زاروا المحل حاملين على كواهلهم حكايات من الريف، وكذا عند زيارات الفنانين والشعراء، خاصة شعراء الأشرطة المشهورون، فهؤلاء يزورون المحل بشكل مستمر ومنتظم ويُستقبلون بحفاوة كبيرة خلال تجليسهم على مقعد معدني معد خصيصاً لهم ، وبسبب أن هؤلاء الشعراء يقدمون المادة السياسية لما تم غناءها مؤخراً، فإن الحشود تتجمع باستمرار للحكي والدردشة معهم مستمتعين بوجهات نظرهم حول الأحداث، ومستمعين أحياناً لقراءاتهم الحية للقصائد الحالية التي يقرأونها بصوت عال من كراساتهم، لهذا أصبح محل قطعة من بلدي مكاناً مقصوداً ومبجلاً لعدد لا يُحصى من اليافعيين وكذلك المعجبين للتراث اليمني بشكل عام بغض النظر عن الهوية والطبقة الاجتماعية أو الجنس، كما أخبر الحاج الزبون غير اليافعي الذي دخل المحل في صباح يوم ما: “لا فرق بين مكان وآخر. كل هذا عن اليمن” .


(بتصرف من كتاب الباحث الأمريكي فلاك ميلر”الصدى الأخلاقي لوسائل الأعلام العربية- شعر الشريط والثقافة في اليمن)

مشــــاركـــة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى