تراث شقرة .. للدكتور سعيد بايونس

تراث شقرة .. للدكتور سعيد بايونس
تقديم مسعود عمشوش

“صباح الرضا يا عرف طيب النقا
والشعر والفن دي عالبحر طالت سنينه
صباح الرضا يا أهل شقرة ويا
صياد شقرة ويا شقرة العروس الحسينة
صباح الرضا يا بحر فيك الرضا
من وحي رب السماء للناس لقمة سمينة”

تعود أقدم إشارة تاريخية لمدينة شقرة، التي تعدُّ واحدا من أهم موانئ الجنوب العربي، إلى بداية القرن السابع الهجري الثالث عشر الميلادي. وتبيّن بعض المصادر التاريخية والتنقيبات الأثرية التي أجريت في موقع (الحصمة) أن شقرة ظهرت بوصفها منطقة استيطان بشري منذ عصر ما قبل الإسلام. وقد تناول عدد من المؤرخين علاقة شقرة المتينة بكل من عدن والشحر بحضرموت، وذلك في حالات السلم والحرب، إذ كانت شقرة، التي استقر بها عدد كبير من الصيادين الحضارمة، عوناً لعدن والشحر في التصدي لمحاولات البرتغاليين الاستعمارية في القرن العاشر الهجري، السادس عشر الميلادي. ومن المعلوم أن شقرة، التي أصبحت عاصمة للسلطنة الفضلية، قد قاومت باستبسال الاستعمار البريطاني، الذي قام بقصفها مرات عدة وإحراقها في أربعينيات القرن التاسع عشر قبل أن يتمكن من إخضاعها لسيطرته في سبعينيات ذلك القرن.
**
وظلت مدينة شقرة، التي يمكن اعتبارها عاصمة أبين الثقافية، طوال مسارها التاريخي، مركزا ثقافياً متميزاً، إذ تُنظَّم فيها كثير من الأنشطة الثقافية والرقصات الشعبية، مثل الدحيف والسمرة الساحلية والمياحة والرزحة، التي يقيمها أبناء المدينة في مختلف مناسباتهم الاجتماعية والدينية والوطنية، وتلك المناسبات المرتبطة بعملهم في البحر.
ولأهمية الموروث الثقافي والفنون الشعبية في شقرة بادر عدد من أبناء شقرة وأبين إلى جمعها وتوثيقها ودراستها. ومن بين هؤلاء الباحثين تتميّز جهود الأستاذ الدكتور سعيد محمود بايونس، بالغزارة والصلابة العلمية؛ فهو أسس (جمعية شقرة الثقافية والاجتماعية)، وأصدر مجلة (الدحيف) الشهرية، وكرس قلمه لتوثيق ودراسة جزء كبير من مكونات الموروث الثقافي والفنون الشعبية في شقرة.
ويتضمن هذا الكتاب الذي بين أيدينا عددا من الدراسات التي وزعها المؤلف على أربعة فصول. يتضمن الأول ثلاثة أجزاء، تناول في الأول منها دراسة حول طقوس (العرس الشقري). وقد استطعنا خلال قراءتنا لهذه الدراسة، التي تذكرنا بالطريقة التي قدم بها المؤرخ الموثق عبد القادر محمد الصبان عادات الزواج في حضرموت، أن نلمس كثيرا من أوجه الشبة بين عادات الزواج في شقرة وعاداته في حضرموت، بما في ذلك بعض المسميات مثل (الكوبرة والحاجرة والماشطة) والغسل أو الغسة والحضر والسروة المحضر.
ويؤكد المؤلف أن العلاقة بين العرس الشقري والشعر علاقة وطيدة، وأن حياة سكان شقرة “شعر في شعر؛ يتسامرون شعرًا، ويتخاصمون شعرًا، ويتحابون شعرًا ويعملون شعرًا”. لهذا فالدحيف يعد مكونا مهما من مكونات طقوس العرس الشقري. ويتميز دحيف الزواج بالمساجلات ومديح أهل العرس. ويقدم لنا د. بايونس نموذجا من تلك المساجلات بين الشاعر سالم محمد باعديل (لصبع) وأبوبكر باسحيم، يقول سالم محمد لصبع:

نَـﭙَـىٰ نُجْبرْ ٱهْل ٱلعِزّ وٱلمعْتَبَرْ
ذِي سَيْلُهُمْ با يسِقِّيْ ٱلمنْتهَىٰ وٱلرَّداعةْ

فيرد عليه الشاعر أبوبكر باسحيم:

عَلَى ٱلرّاس لَاْ ٱنْتهْ جِيت يا بِنْ عَمَرْ
ساعة على الجبر تكفي من ثلاثين ساعة

وبما أن شقرة مدينة ساحلية فالبحر ظلّ مصدر عددٍ من العادات في المدينة، منها عادة (الهرابة) أو (الشام)، المرتبطة بالظاهرة البحرية التي يبلغ فيها الجزر أقصى مداه. وتتشكل الهرابة حين يتراجع البحر إلى الخلف؛ ويقوم السكان في حوالي الساعة الثانية عشرة ظهرًا بجمع المحار والصدف والأسماك من قاع البحر ومن بين الصخور و(القشاع)، ويشكرون البحر الذي جعلوا له، مثل سكان الشحر ونواحيها، إلهًا أسموه “سَوْبان”، وينذرون له “آخر رَبُوع في صَفَر”، يقيمون فيه بعض الطقوس ويرقصون “الدحيف”. ويكرس المؤلف الجزء الثاني من الفصل الأول من كتابه لتقديم تلك العادة: (الهرابة).
أما الجزء الثالث من الفصل الأول فيتناول المؤلف فيه بإيجاز (الدكة)، ذلك الفناء المستطيل، الذي يشكل الواجهة الأمامي للبيت الشقري. ويتحدث عن التطورات التي طرأت على هندسة الدكة في مسيرتها المعمارية؛ ويقدم كذلك أبرز وظائف الدكة، لاسيما في شهر رمضان.
وبما أن شقرة هي منبع رقصة الدحيف الذي يدخل ضمن طقوس كثير من المناسبات الاجتماعية في المدينة فقد كرس له المؤلف الفصل الثاني من كتابه. وتضمن هذا الفصل جزءا للتقديم النظري، يذكر المؤلف فيه المناسبات والمواسم التي يؤدّى فيها الدحيف. ويبين أن رقصة الدحيف تبدأ بدان قصير يتبارى فيه الشعراء، ثم دان وسط، ثم دان طويل، وهو دان شجي جداً يتناسب وساعات الصباح، التي يكون المتلقي قد أعياها السهر، فيبث الدان فيه النشاط من جديد.
وبالنسبة لرقصة الدحيف فيتم اختيار أفضل قصيدة في المساجلة ويصطف الراقصون في صفين مستقيمين متوازيين. وتتم رقصة الدحيف على إيقاع الهاجر (الطبل). وفي اعتقادنا أن المؤلف، من خلال ربطه بين الدان والدحيف يقرب بين شعر ورقصة الدحيف وبين شعر ورقصة الشبواني كما يمارسها أبناء الشحر ووادي حضرموت.
وفي الجزء التطبيقي من الفصل الثاني يشير المؤلف أولا إلى بعض أعلام شعر الدحيف، مثل الشاعر أبوبكر باسحيم، وعوض محمد با ضاوي، والسلطان عبد الله عثمان وآخرين، ثم يخصص دراسة لتقديم بعض النصوص الشعرية من فن الدحيف لحسين عبدالله محمد، المشهور بناجي أبوبكر باسحيم، الذي كان داعًيا إلى التحرر والاستقلال وملتزمًا بقضايا مجتمعه. ويكرس دراسة أخرى لتقديم الشاعرة الشعبية نور بنت علي، التي استقرت في شقرة. ويذكر أنها “نموذج للمرأة الشقرية المتمدنة التي كسرت الحواجز الاجتماعية، ولم تخفِ موهبتها الشعرية، بل قارعت الشعراء في طقس الدحيف، تصول وتجول، وسلاحها موهبتها الشعرية، وأنوثتها، في وسط جمهور الدحيف الذي لم يعتد على وجود امرأة تنافس الفحول”.
وفي الفصلين الثالث والرابع يتناول بايونس بعض المكونات الفنية للحياة الثقافية في مدينة شقرة. فيدرس في الفصل الثالث، (فن المونولوج في شقرة)، الذي برز هناك منذ خمسينيات القرن الماضي. ويؤكد المؤلف أن المونولوج شكل فنيّ جديد “جاء لمواكبة التغييرات الاجتماعية المتسارعة، التي بعدت عن القيم الأصيلة للمجتمع، ولم تعد المواعظ بالطريقة القديمة (الكتابة والخطابة) مجدية، فكان المونولوج شكلًا فنيًّا ذا قدرة على توصيل رسالته التوجيهية عن طريق الفكاهة الساخرة المصحوبة بالنغم”.
وفي الجانب التطبيقي من الدراسة يستعرض د. بايونس بعض ملامح هذا الفن، وذلك من خلال تقديم المونولجست عثمان مريبش، الذي اكتسب شهرة كبيرة في عدن، التي قام بتسجيل عدد من مونولوجاته فيها. ويؤكد المؤلف أن مونولوج (شهر العسل في بصل)، الذي كتب كلماته الشاعر أحمد عُبَاد الحسيني، يعد أشهر ما لحن وغنى المنولوجست عثمان عبدربه مرَيْبش.
أما في الفصل الرابع (دفاعًا عن الأغنية في شقرة)، فقد تناول د. بايونس بعض الأغنيات الشهيرة التي يرى أن شقرة مكان نشأتها أو مصدرها، مثل أغنية (سرى الليل وا نايم على البحر). وبعد أن يناقش د، بايونس في نهاية هذا الفصل هوية مؤلف أغنية (قال بن صالح علي)، يقنعنا بأن القومندان قد استلهم أحد إيقاعات الدحيف الشقري ليضع لحن قصيدته الغنائية (صادت عيون المها).
وفي الختام، نؤكد أن الأستاذ الدكتور سعيد محمود بايونس، مؤلف هذا الكتاب، باحث جنوبي ملتزم بقضية شعب الجنوب، ويتميز بالشجاعة ولا يحب البقاء في المواقع الرمادية. وقد أهدى الكتاب، إلى شقرة، وإلى الجنوب أرض الحضارة والإنسانية.

مشــــاركـــة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى