رأس فرتك: معلم جغرافي ومحطة ملاحية مهمة في جغرافية علم البحار.

 

كتبه: محمد حسين بلحاف.
تاريخ: ٢٨/ ٨ / ٢٠٢٥م.

يُعَدّ رأس فرتك أحد المعالم الجغرافية البارزة على الساحل الجنوبي لشبه الجزيرة العربية، وتحديدًا في بلاد المهرة. وقد ورد ذكر هذا الرأس في عدد من النصوص التاريخية القديمة التي تناولت الطرق البحرية في المنطقة، مما يؤكد أهميته الجغرافية والاقتصادية كمحطة ملاحة وتجارية. ولم يقتصر حضور رأس فرتك على المصادر الجغرافية والملاحية، بل تجلى أيضًا في القصائد الشعرية لشعراء المهرة، حيث اعتادوا –ولا يزالون– أن يستهلوا قصائدهم بذكر هذا الرأس، مما يعكس مكانته الرمزية والثقافية في الذاكرة الجمعية لأبناء المهرة.

لم تقف شهرة رأس فرتك عند حدود الأدب الشفوي، بل ورد اسمه كذلك في النقوش اليمنية القديمة، ومنها نقش عبدان الكبير، الذي تذكر المصادر المهتمة بتاريخ النقوش أن تاريخه يعود إلى سنة (355م). ويظهر في السطر الثاني والعشرين من النقش ذكرُ المعارك التي دارت بين اليزنيين بقيادة أحد أبناء ملشان وبين قبائل المهرة، وقد جرت هذه المعارك في أربعة مواطن من بلاد المهرة، وهي: حبروت، ودمقوت، ورأس فرتك، وجبحون.

ويُلاحظ أنَّ الأسماء الواردة في النقش ما زالت قائمة حتى اليوم،مثل: (دمقوت ،حبروت، وجبحون). أما رأس فرتك فقد ذُكر باسم (أف/ردخ) أي {رأس فرتك}. ومن خلال قراءة هذا النص في كتب المهتمّين بتاريخ النقوش الصخرية، نجد أنّ (أ ف / ر د خ) “اسم مكان يرد هنا للمرة الأولى في النقش، وقد تعرف عليه الناشرون باعتباره رأس فرتك، ورأوا أنّ كلمة (أ ف) هي في الأصل (أنف)، غير أن حرف النون أدغم، وأنف في العربية الشمالية معناها (رأس)، كما أضافوا أنّه يجب البحث عن هذا الرأس في ساحل المهرة”.

ويتميّز هذا الجبل الشامخ بمرفأ طبيعي صغير ويتمتع بمرسى محمي بشكل جيد، وتنتشر على سطحه بقايا أسس لمنشآت معمارية قديمة يُعتقد أنها كانت تُستخدم لأغراض خدمية وتجارية مرتبطة بوظيفة الميناء، وما يؤكد هذا ممسوحات البعثة الفرنسية في اليمن عام 1996–1999م. وتتوافق هذه النتائج كذلك مع ما أورده الجغرافيون والرحالة في العصور القديمة، حيثُ أطلق على رأس فرتك اسم “سياجروس” كأحد أشهر المرافئ للساحل الجنوبي في منتصف القرن الأول الميلادي.
وقد ورد ذكره في “موسوعة التاريخ الطبيعي” للمؤرخ الروماني بلينيوس الأكبر (بليني)، التي نشرها بين عامي (77–79م)، حيث يذكر “أنّ السفن، بعد بدء الرحلات المباشرة بين مصر والهند، كانت تسير بمحاذاة الساحل الجنوبي حتى تصل إلى رأس فرتك، ومنه تنطلق إلى سواحل الهند. وقد اعتبر بليني أنّ أقصر الطرق إلى الهند يمر عبر رأس فرتك، مشيرًا إلى أنّ المسافة بين جبل فرتك وميناء باتلا الهندية – الواقع في شبه الجزيرة الهندية جنوب ميناء موزيريس، وهو من الموانئ التي تعامل معها العرب منذ القرن الثالث ق.م وفق المصادر القديمة – تُقدّر بنحو (1335) ميلًا، ويمكن قطعها بمساعدة الرياح الجنوبية الغربية المعروفة بـ هيبالوس”.

كما أشار إليه بطليموس في جغرافيته، وذُكر أيضًا في كتاب الطواف حول البحر الإريتري (من منتصف القرن الأول الميلادي، لمؤلف مجهول)، الذي يُعد من أهم المصادر التي وثّقت الطرق الملاحية في العصور القديمة. ويصف مؤلفه جبل فرتك في الفقرة (30) بقوله:
“أرض اللبان يوجد جبل بارز في البحر مقابل للشرق، يُسمّى (سياجروس)، عليه حصن وبه مرسى ومخازن تُجمع فيها اللبان”.

ويضيف في الفقرة (32) أنّه:
“خلف رأس (سياجروس) يقع خليج عمانا (وهو خليج القمر حاليًا)”.

وأفرد سليمان بن أحمد المهري مساحة واسعة لرأس فرتك في مخطوط “العمدة المهرية في ضبط العلوم البحرية” –المحفوظ في مكتبة فرنسا الوطنية – ومن المواطن التي ذكر فيها رأس فرتك:

إذ يذكر في الورقة (18/ظ)، الباب الثالث، الفصل الثاني، ضمن باب “معرفة دير فوق الريح وتحت الريح”، بقوله:
“…ومن عدن لفرتك مطلع السمك، ومن فرتك لجزر خوريا وموريا فقيه قولان: أحدهما مطلع الواقع وهو الأصح وعليه أهل الهند، والثاني مطلع العيوق وعليه غالب العرب والهرامزة، والصحيح أن العيوق من فرتك إلى ساجر ونواحيه..”.
يُفهم من هذا النص أنّ المسافة من عدن إلى فرتك تُحسب وفق مطلع نجم السمك، وأن فرتك تمثل نطاق فلكي يُعتمد عليه في الملاحة، و يتضح أيضًا من خلال هذا النص أنّ هناك مدرستين فلكيتين في حساب المسار من فرتك إلى جزر خوريا وموريا (جزر الحلّانيات حاليًا بسلطنة عُمان):
-الأولى: تعتمد على مطلع الواقع وهو الأصح عند أهل الهند.
-الثانية: تعتمد على مطلع العيوق وهو ما تبناه غالبية العرب والهرامزة.

وفي الورقة (20/ظ)، الباب الثالث، الفصل الخامس، في باب “معرفة دير المطالق”، يذكر المهري أنّ “الديرة من فرتك لمامي سقطرى مطلع العقرب، وذكر بعض المجربين أنه في مطلع الحمارين، وهذا يقرب للصحة؛ الديرة من فرتك لجردفون قطب سهيل عند القدماء، ومغيب السلبار عند المتأخرين؛ من فرتك لفيلك مغيب سهيل…”.
يكشف هذا النص أنّ الاتجاه من فرتك إلى مامي سقطرى (ويسمى حاليًا رأس مومي، ويقع أقصى شرق جزيرة سقطرى) كان يُحسب عادة وفق مطلع العقرب. غير أنّ بعض المجرّبين رأوا أنّه يُحسب وفق مطلع الحمارين، وهو ما اعتبره المهري أقرب إلى الصحة.

أما الاتجاه من فرتك إلى رأس جردفون، فقد كان يُحسب عند القدماء وفق قطب نجم سهيل، بينما اعتمد المتأخرون على مغيب نجم السلبار. ونشير هنا إلى أنّ رأس جردفون يمثّل أقصى نقطة شرقًا على البرّ الأفريقي في الصومال.

وفيما يخص المسار من فرتك إلى فيلك، فقد ارتبط بحساب مغيب سهيل.

وتتجلّى أهمية رأس فرتك الملاحية أيضًا في التحذيرات التي أوردها المهري في خاتمة مخطوطته «العمدة المهرية». ففي الورقة (58/ظ)، ضمن باب «المحذورات العشرة»، خصّص المحذور الثالث للتحذير من الظروف البحرية الصعبة في هذه المنطقة، قائلاً:
“المحذور الثالث: من ندخة فرتك في مائة وعشرين وما قاربها وأنت يمانيا، فإن في بعض الأحيان يكون عليه المد هنديا قويا خصوصا في الشمال، وأعلم أن مائة النيروز الشمال موجودة في فرتك”.
هذا النص يبرز خطورة الإبحار قرب “ندخة فرتك” في اليوم 120 من النيروز- النيروز هو التقويم البحري عند بحارة العرب وغيرهم – إذ تكون المنطقة عرضة لرياح شمالية قوية ومدّ بحري آتٍ من جهة الهند، مما يجعل فرتك نقطة حساسة وبداية لتأثيرات الرياح الموسمية الشمالية.

وقد أكدت عدد من المصادر العربية أهمية رأس فرتك أيضًا؛ إذ يورد ابن مجاور(ت 690 هـ)، في كتابه تاريخ المستبصر ما نصّه: “وحدثني ربان في عدن قال: إنه من جملة الرياح الأزِب، يعني الجنوب، وحدود هبوبه من رأس فرتك إلى مرباط..”. كما يشير كذلك بقوله: «..وإلى حلقات أربعة فراسخ وتعبر جبل فرتك أول مبتدأ غب القمر وهو مندخ المركب المقبلة من الهند. وإلى الحَصورين ستة فراسخ. وإلى خيريج ستة فراسخ..». ومن خلال هذه الإشارات يتبين أن حدَّ هبوب الرياح الجنوبية يمتد من رأس فرتك إلى مرباط، وأنّ جبل فرتك يُعدّ أول معلم جغرافي بارز عند منطقة تُسمّى غب القمر، وهي محطة ملاحة بحرية يُستدل بها المراكب القادمة من الهند. كما أنّ ذكره للحَصورين يُراد به منطقة حصوين الحالية، بينما يقصد بخيريج بلاد حيرج التاريخية الواقعة اليوم ضمن مديرية سيحوت.

أما الهمداني(ت 334هـ) في «صفة جزيرة العرب» فقد أورد رأس فرتك ضمن تحديده لحدود اليمن البحرية بقوله: “… وذلك حد ما بين بلد كنانة واليمن من بطن تهامة، وأول إحاطة البحر باليمن من ناحية دما فطنوى فالجمجة فرأس الفرتك فأطراف جبال اليحمد”.

وفي الختام، ومن خلال تتبع هذه الشهادات المختلفة – من النقوش اليمنية القديمة، والمصادر القديمة، والمخطوطات الملاحية العربية، والمصادر الجغرافية – يتبين أن رأس فرتك لم يكن مجرد معلم طبيعي بارز، بل شكّل عنصرًا محوريًا في التاريخ الملاحي والتجاري والعسكري لبلاد المهرة. فقد مثّل محطة استراتيجية للسفن العابرة، ومخزنًا لتجميع اللبان، ونقطة ارتكاز فلكية في الحسابات الملاحية، كما احتفظ بمكانة رمزية وأدبية في الذاكرة الشفوية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر:
1- مخطوط “العمدة المهرية في ضبط العلوم البحرية” لسلمان بن أحمد المهري –المحفوظ في مكتبة فرنسا الوطنية، برقم(2559).
2- التاريخ الطبيعي لبليني، (ج2)، (ص62)
3- صفة جزيرة العرب، للهمداني (ت 334هـ)، (ص 51).
4- تاريخ المستبصر، لابن مجاور (ت 690 هـ)، (ص 97-99).
5- ملوك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت، لحمود محمد جعفر السقاف، (ص 74-76-81-82).
6- المواني العُمانية القديمة ومساهمتها في التجارة الدولية، في ضوء الكتابات اليونانية والرومانية، من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الثالث الميلادي، الدكتورة أسمهان سعيد الجرو، ص 94–95.
7- الطواف حول البحر الأحمر (القسم الثاني)، إبراهيم خوري، ص 114.
8- أسيل روجيل، البعثة الفرنسية في اليمن 1996–1999م: مسوحات ساحل حضرموت والمهرة، ص 241–249.

مشــــاركـــة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى