نتساريم”.. جغرافيا الركام والسيطرة الإسرائلية لطمس غزة

ابين ميديا/متابعات

تجاوزت العمليات العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة، خاصة بعد أحداث 7 أكتوبر 2023، مرحلة الاستهداف الموضعي لتصل إلى مستوى “المسح العمراني” لأجزاء واسعة من مدينة غزة وشمال القطاع. هذا التحول الجذري في طبيعة الحرب لم يعد يقتصر على الصراع العسكري، بل استهدف تدمير مقومات الحياة المدنية والحوكمة المحلية، مما أدى إلى نتائج كارثية غير مسبوقة.

كان المكتب الإعلامي الحكومي في قطاع غزة أعلن أمس الأحد أن 90 في المائة من قطاع غزة دُمر تماماً بعد عامين من الحرب الإسرائيلية.

وقال المكتب الإعلامي الحكومي إن 80 في المائة من مساحة القطاع باتت تحت سيطرة إسرائيل عبر «الاجتياح والتهجير»، مضيفاً أن إسرائيل ألقت أكثر من 200 ألف طن من المتفجرات على غزة منذ اندلاع الحرب.

أظهرت صورتان التقطتهما الأقمار الصناعية مشاهد لمدينة غزة يوم 27 سبتمبر 2023، أي قبل أسابيع قليلة من شنّ حركة «حماس» هجومهاً المفاجئ على إسرائيل، ورداً على ذلك شنّت إسرائيل حربها على غزة، التي أسفرت عن مقتل أكثر من 66 ألف شخص، ونزوح الملايين، وتدمير القطاع الفلسطيني.

في الصورة الثانية، التقطت الأقمار الصناعية مشاهد من يوم 11 سبتمبر 2025 تكشف حجم الدمار الهائل الذي حل بالقطاع بعد ما يقارب عامين على الحرب.

وقد اعتمدت القوات الإسرائيلية في عملياتها على استراتيجية متعددة المحاور لتحقيق هذا النطاق من التدمير، تمثلت في القصف الجوي والمدفعي الكثيف، حيث أفادت مصادر فلسطينية بأنها ألقت أكثر من 200 ألف طن من المتفجرات على القطاع، مما أدى إلى مسح مربعات سكنية كاملة في أحياء رئيسية مثل الشيخ رضوان وحي النصر.

وتكامل هذا القصف مع استخدام الجرافات العسكرية العملاقة خلال التوغل البري لـتجريف وتدمير شبكات الطرق والبنية التحتية الحيوية، مما حول مناطق كانت مكتظة إلى “جغرافيا من الركام”.

وتؤكد الإحصائيات حجم الكارثة الوجودية التي حلت بالقطاع. فقد أعلن المكتب الإعلامي الحكومي في غزة أن نسبة الدمار الإجمالي في القطاع بلغت نحو 90% من مجمل المباني والمنشآت.

وأشارت التقديرات إلى أن أكثر من 70% من المباني أصبحت غير صالحة للسكن، وتجاوز عدد المباني المتضررة كلياً أو جزئياً 190 ألف مبنى.

كما تم تدمير وإخراج المرافق الحيوية من الخدمة بشكل ممنهج، حيث تضرر نحو 95% من مدارس القطاع وتدمير أو تضرر ما لا يقل عن 835 مسجداً، مما يمثل تفكيكاً كاملاً للبنية التحتية الاجتماعية والتعليمية والدينية.

لكن الدمار المادي لا يمثل سوى جزء من استراتيجية أوسع نطاقاً لإعادة تشكيل جغرافية غزة وترسيخ السيطرة عليها.

وقد كشفت صحيفة “واشنطن بوست” أن جيش الاحتلال عمل بشكل فعال على إنشاء “ممر نتساريم” الاستراتيجي.

هذا الممر، الذي يبلغ طوله حوالي أربعة أميال ويمتد من الشرق إلى الغرب، صُمم خصيصاً لـفصل المناطق الشمالية من القطاع عن المناطق الجنوبية، مما يحقق خطة “تقسيم القطاع إلى شطرين” التي كانت مطروحة في مخططات سابقة للاحتلال.

يرى محللون عسكريون وخبراء إسرائيليون، في تصريحات للصحيفة، أن ممر نتساريم يمثل جزءاً من مشروع واسع النطاق لإعادة تشكيل القطاع وترسيخ الوجود العسكري الإسرائيلي، على الرغم من تصريحات المسؤولين المتكررة بعدم نيتهم إعادة احتلال غزة بشكل دائم بعد انسحاب 2005.

لكن ما تظهره صور الأقمار الصناعية من بناء ثلاث قواعد عسكرية جديدة داخل الممر منذ مارس/آذار الماضي، يشير إلى مخطط إسرائيلي واضح للسيطرة الأمنية “إلى أجل غير مسمى”، وهو ما تعهد به رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو.

وبحسب تحليل أجرته الجامعة العبرية، فقد جرى تدمير ما لا يقل عن 750 مبنى من أجل إنشاء “منطقة عازلة” على جانبي الممر نفسه.

بالإضافة إلى عرقلة هذا الممر لجهود التوصل إلى وقف إطلاق النار في غزة، فإنه يمنح الجيش الإسرائيلي مرونة لا مثيل لها في التحكم بالقطاع.

فمن الناحية العسكرية، يتيح الممر سرعة الانتشار والقدرة على السيطرة، ومن الناحية المدنية، يتيح التحكم الصارم في تدفق المساعدات وحركة النازحين الفلسطينيين بين الشمال والجنوب، مما يضمن منع عودة السكان إلى شمال القطاع، وهو ما أكدته تقارير صحيفة “معاريف” الإسرائيلية.

هذه الخطوة، كما أشار أمير أفيفي، العميد الاحتياطي والنائب السابق لقائد فرقة غزة، تعكس الهدف الأوسع للعملية: “حرية العمل الكاملة في كل مكان في غزة”، واستكمالاً لخطط سابقة لـتقطيع غزة إلى كانتونات يسهل السيطرة عليها، وهو ما أوردته صحيفة “يديعوت أحرونوت” تحت عنوان “التطويق والتقسيم في غزة”.

في نهاية المطاف، أدت هذه الاستراتيجية المزدوجة —التدمير الشامل لـ 90% من البنية التحتية المدنية، متبوعاً بـالتقسيم الجغرافي عبر ممر نتساريم — إلى تفكيك أي شكل من أشكال الحوكمة المحلية، وفرض التهجير القسري للسكان، وزيادة معاناة الفلسطينيين عبر عرقلة وصول المساعدات.

إن هذا المسح العمراني، مقروناً بالسيطرة الجغرافية عبر الممر، يضع الأزمة في إطارها القانوني الأعمق كدليل على انتهاك فاضح للقانون الدولي الإنساني وتهديد خطير لمستقبل أي كيان فلسطيني مستقر في القطاع.

مشــــاركـــة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى