البيان السري للأغلبية البرلمانية الشمالية

كتب: د . عيدروس نصر النقيب
بعد سبات عميق لسنوات وسنوات، استفاق مجلس النواب اليمني، على وقع الانتصارات التي حققتها القوات الجنوبية في طرد الذراع العسكري للجماعة الحوثية من المناطق الشرقية، والمتمثلة بقوات المنطقة العسكرية الأولى التي ظلت على مدى أحد عشر عاماً تمثل القناة الآمنة لتزويد الجماعة الحوثية بالأسلحة والوقود والمخدرات وجميع المهربات المستخدمة كسلاح تهديد لليمن والمحيطين الإقليمي والدولي.
استفاق مجلس النواب ذو الأغلبية الشمالية، وبالأحرى ثلةٌ من قيادته لا ليبارك الانتصارات التي حققتها القوات الجنوبية لصالح تحالف الشرعية ومواجهة الجماعة الحوثية الانقلابية، بل لإصدار بيانٍ يتباكى فيه على مصير ذلك الذراع العسكري الأقوي للحوثيين في مناطق الجنوب والشمال على السواء.
يقول الذين كتبوا البيان إن المجلس يعتبر ما جرى في محافظتي حضرموت والمهرة يأتي “خارج إطار التوافق الوطني والمرجعيات المنظمة للعملية السياسية” ويرى فيه ” مخالفةً صريحةً لكل المرجعيات المتوافق عليها، بما في ذلك اتفاق الرياض وبيان نقل السلطة من خلال تحريك قوات عسكرية إلى المحافظات الشرقية، وفرض واقع جديد عبر إجراءات أحادية ضربت عرض الحائط بالمبادئ الدستورية وبالتوافق الوطني، وتجاوزت الصلاحيات الحصرية لمجلس القيادة الرئاسي ورئيس المجلس القائد الأعلى للقوات المسلحة”.
ويحذر البيان من مغبة الانزلاق إلى مربع الخطر واللجوء إلى القوة التي تلحق ” أضراراً بالغة بروح الأخوة والوحدة الوطنية، وتقدم خدمات جليلة للعدو الحوثي، وتمزق الصف الوطني وتماسكه”.
ويستنجد البيان بالأشقاء في التحالف العربي والدول الراعية للعملية السياسية لــ”العمل على إلغاء أي ترتيبات أو إجراءات أحادية تمت خارج إطار التوافق والاتفاقيات المنظمة لذلك . . وعدم السماح بتعريض البلاد لمخاطر كبرى قد تعصف بها وتفاقم المآسي الاقتصادية والإنسانية”
إن من يقرأ البيان يرى في لغته الكثير من المغالطات التي لا تنطلي حتى على المبتدئين في ممارسة السياسة رغم ما يتضمن من مفردات تبدو لمن يجهل تفاصيل الأمور وكأنها تنطق بالصواب، لكنني وقبل تفنيد محتويات البيان سأتعرض للملاحظتين التاليتين:
1. أعرف أن الكثيرين سيقولون في المجلس ما لم يقله مالك في الخمر، فهو مجلس منتهي الصلاحية وهو مجلس منقسم بين جماعة الحوثي وجماعة الشرعية، وهو مجلس بأغلبية شمالية، وهو مجلس كانت أغلبيته مؤيدة للانقلاب الحوثي، وهو عاجز عن صناعة أي موقف يساهم في إنقاذ البلاد مما تعيشه من ويلات وعذابات ومآسي، يحذر منها في بيانه وهي قد حصلت قبل أن يفيق كاتبو البيان بسنوات، . . .لكن المشروعية الوحيدة التي ينطلق منها المجلس تكمن في أنه الهيئة المنتخبة الوحيدة قبل 22 سنة، أي ما يقارب أربعة أضعاف عمره الدستوري.
2. علمت من البيانات الصادرة عن كتلة الحزب الاشتراكي، والبيان المشترك بين الحزب الاشتراكي والتنظيم الناصري، والأهم البيان الصادر عن الكتلة البرلمانية الجنوبية، بأن هذا البيان صدر خفاءً ولم يتم التشاور بشأنه مع رؤساء الكتل البرلمانية كما جرت العادة، ناهيك عن عدم عرضه على أعضاء المجلس عبر وسائل التواصل كما يتم في كثير من الحالات المشابهة.
هاتان الملاحظتان تدخلان ضمن الملاحظات الشكلية لكن لننتقل إلى الملاحظات الأخرى التي لا بد من إبدائها على هذا البيان:
1. حتى الآن لا أدري ما سبب الانزعاج الذي يبديه البعض من تصدي القوات الجنوبية للذراع العسكري الحوثي في المنطقة الشرقية، ويعلم الجميع أن معسكرات هذه القوات كانت تمثل المأوى الآمن للجماعات الإرهابية على مدى عشرات السنين، ولم تطلق هذه القوات طلقةً واحدة ضد الأنشطة الإرهابية حينما سيطر تنظيم داعش على مديريات حضرموت الساحل، ولم تعلن عن اعتقال أو مواجهة إرهابيٍ واحد، بل استقبلت جماعة داعش حينما تلقوا هزيمتهم النكراء على أيدي أبطال النخبة الحضرمية وقوات المنطقة العسكرية الثانية (حضرموت الساحل) ووفرت لهم الملاذات الآمنة ليواصلوا أعمالهم التخريبية والإرهابية من هناك.
2. إن المفاهيم المطاطة التي يستخدمها البيان كالحديث عن “التوافق الوطني” و”المرجعيات المتوافق عليها”، وبيان نقل السلطة، و”روح الأخوة” و”الوحدة الوطنية” و”المبادئ الدستورية” وغيرها، لا تعبر إلَّا عن حالة هروبٍ مكشوفة من الواجب الرئيسي لمؤسسات الشرعية بما فيها هذا البرلمان، وهي توحيد كافة القوى لمحاربة الإرهاب وتطبيع الحياة المدنية وتوفير ظروف موائمة لحياة كريمة لمواطني منطقة حكم الشرعية، فالتوافق الوطني الذي يتباكى عليه البيان هو غائب حينما فشل هذا التوافق في معالجة الأزمة الإنسانية التي تعيشها مناطق الجنوب، وحينما عجز عن تحريك دبابة واحدة من مئات دبابات المنطقة العسكرية الأولى لمواجهة الحوثيين، وحينما فشل هذا التوافق في مكافحة الجماعات الإرهابية الممولة من تلك المنطقة العسكرية والمنتشرة في محافظات أبين وشبوة وحضرموت، بينما نجحت القوات الجنوبية وحدها في هذه المهمة.
3. إن الاستنجاد بالتحالف العربي والدول الراعية وبالمجتمع الدولي لإجبار القوات الجنوبية على التراجع عن خطواتها هو استخفاف بالدول الشقيقة وبالمجتمع الدولي بما في ذلك الرباعية الدولية، من حيث اعتقد معدو البيان بأن الأشقاء والأصدقاء لا يعلمون بأن قوات هذه المنطقة هي أصلا متمردة على الشرعية وعلى التوافق الوطني نفسه، وهي رديف للإرهاب بجناحيه الحوثي والداعشي، ومن اعتقد بأن المجتمع الإقليمي والدولي لا يدرك هذه الحقيقة فإنه يكشف إما عن تخلفه عن متابعة مجريات الأمور على الأرض أو انحيازه السافر إلى تلك الجماعات المرفوضة محلياً وإقليمياً ودولياً.
4. لقد بحثت في كل أسطر البيان ومفرداته وجميع أحرفه، لعلي أعثر على كلمة واحدة تتحدث عن توحيد الإمكانيات وحشد الطاقات من أجل تحرير صنعاء واستعادة الدولة المخطوفة لكنني فشلت، وأرجو ممن يجد ما يشير إلى هذا بين عبارات البيان أن ينبهني إلى مكان هذه الإشارة، . . . وبالعكس فقد استمع الجميع إلى حديث الأخ اللواء عيدروس الزبيدي رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي وهو يؤكد أن الوجهة القادمة هي تحرير صنعاء.
5. وأخيرا: وحينما يطالب الزملاء معدو البيان بتراجع القوات الجنوبية عن المواقع التي حررتها، هل يقصدون عودة أبو العوجاء وألويته بآلافها المؤلفة لتواصل وظيفتها المعروفة في تنفيذ الأجندة الإرهابية؟ إن ذلك لعمري ليكشف أن التستر برداء (الشرعية) واللحمة الوطنية والتوافق الوطني، ووحدة الصف، وغيرها من المفرات الزئبقية الواردة في البيان إنما يكشف أسف المجموعة التي أصدرت البيان على الخسائر الجسيمة التي أُلحِقت بالجماعة الحوثية.
منذ سنوات أحاول عدم الاقتناع بما يقوله الكثيرون بأن الأطراف الشمالية مهما اختلفت واقتتلت تنسى خلافاتها حينما يتعلق الأمر بالجنوب، لكن بيان الأمس أقنعني بأن لا فرق بين برلمان يحيى الراعي وجماعته وبرلمان سلطان البركاني وزملائه، حينما يتعلق بالأوضاع في الجنوب والنجاحات المتوالية التي تحققها القوات الجنوبية منذ العام 2015م







