رحلة الكويت) لربيع بن عبيد الله بين أدب الرحلة والسيرة الذاتية

كتب / بروفيسور مسعود عمشوش

أصدر ربيع عوض مبارك بن عبيد الله عام 2016 كتابا بعنوان (رحلة الكويت وصحبة الوفاء، 1963-1996)، وعلى الرغم من العنوان، لا يدخل نص ربيع بن عبيد الله ضمن أدب الرحلات إلا جزئيا. صحيح أن المؤلف قام بسرد بعض الأحداث المثيرة التي وقعت له خلال سفره من سيؤن إلى الشحر ومنها إلى المهرة ثم إلى دبي والكويت، لكنه لم يهتم بسرد الآخر الكويتي، ولا بتقديم البلاد التي عاش فيها سبع سنوات. فمن الكويت لم يقدم لنا ربيع إلا العزب التي عاش فيها حياة صعبة. كما اختزل المؤلف وصف حياة الاغتراب في تقديم العزبة والحياة داخلها التي تفرض على الرجال القيام بمهام الطباخة والكنس والغسيل، وهي أمور لا يمكن أن يقوموا بها في حضرموت. وأشار المؤلف بإيجاز إلى مشكلة وجود الكفيل للحصول على ترخيص الإقامة، وفي بعض الأحيان ضرورة العمل لديه بأجر زهيد.
وفي اعتقادنا أن كتاب (رحلة الكويت) ينتمي إلى أدب السيرة الذاتية أكثر من انتمائه إلى أدب الرحلات؛ فالكتاب يسرد ثلاثة وثلاثين عاما من عمر المؤلف أطال الله فيه. وتشكل إقامته في الكويت، التي امتدت أقل من سبع سنوات بداية تلك الفترة. فربيع الذي لم يذكر لنا شيئا عن طفولته، يرى أن السنوات السبع التي قضاها في الكويت والست والعشرين سنة التي تلتها تشكل الجزء الأهم من حياته، ويؤكد ذلك قائلا: “هذه الرحلة كانت على خلاف غيرها من الرحلات التي خضتها في حياتي، إذ كان لها الأثر البارز في تكوين شخصيتي وتطوير حياتي وتأسيس علاقتي بمن حولي”. ص10
لماذا الكويت؟
كان سالم هادي باربود، أحد أبناء بلدة بحيرة الواقعة غرب مدودة، من الذين سبق لهم أن سافروا إلى الكويت، وزار في مطلع عام 1963 والد المؤلف في بلدة مدودة واقترح عليه أن يسمح لولده ربيع بالسفر إلى الكويت، ويعترف المؤلف أن “أرض الكويت كان السفر إليها [من وادي حضرموت] مجهولا ولا يوجد أحد من بلدنا قد سبق وإن سافر إليها وكثير ممن حولنا يجهلون ما يعرف بالخليج العربي”.ص11
وبعد أن وافق الوالد ركب ربيع شاحنة نقل باتجاه ميناء الشحر برفقة ستة شباب وصبية من مدوده [خالد سعدان باحارثة عمره تسع سنوات فقط]، وسبعة من بحيرة وأربعة من قارة آل عبد العزيز. ولا أحد منهم يمتلك أي وثيقة رسمية. ومن الشحر تمَّ تهريبهم بشاحنة ثم بجمال إلى أرض المهرة، ومنها بالسفينة إلى دبي حيث ابتاعوا جوازات سفر مهرية، ومنها إلى الكويت.
تقع جميع الحوادث المثيرة التي يسردها المؤلف بعيدا عن الكويت، وتحديدا في عقبة المعدي التي تنزلق منها الشاحنة وتكاد تودي بحياتهم، ثم في الطريق بين الشحر والمهرة حيث يقومون طوال الطريق (بدهف) الشاحنة أكثر من ركوبها. وفي الباخرة التي يموت أحد بحارتها ويقوم زملاؤه برميه لأسماك القرش، وفي دبي التي في عام 1963، لم يستطيعوا العثور فيها على أحد يتكلم العربية إلا بعد بحث طويل، وهو ما يبيّن لنا السمة الكوسموبوليتية للمدينة التي كانت الفنادق فيها عبارة عن عشش وحمامتها البحر. ويصف المؤلف ذلك قائلا: “دخلنا خور دبي مع وقت المغرب. ونزلنا من القارب وبدأنا السير داخل المدينة، ولفت انتباهنا عدم السؤال عن الهوية ولا جواز السفر، وكأننا في بلدنا. سمعنا أذان المغرب من مسجد قريب واتجهنا إليه، وعند وصولنا رحنا نبحث عن أماكن للوضوء، وعندما لم نجدها اقتربنا من رجل كبير في السن وسألناه عنها، فأخبرنا أن علينا أن نتوجه إلى مسجد آخر لا توجد به منارة، وقال ذلك مسجد للسنة وتوجد به أماكن للوضوء أما هذا فهو مسجد للشيعة. وبعد الصلاة جلسنا للتشاور للبحث عن سكن يأوينا نحن الثماني عشرة، وبيننا أربعة من الصغار. وبعد التشاور خرجنا نمشي بين المحلات التجارية علنا نعثر على من نستطيع سؤاله عن مسكن نستأجره، للأسف لم نجد خلال بحثنا من يتكلم العربية. فكل من قابلناهم يتحدثون أما الهندية أو الفارسية، إلا أننا أخيرا عثرنا على رجل بلوشي عربي وسألناه وأفادنا أن نعبر الخور إلى بر دبي، وهناك سنجد أناسا يسكنون في عشش ونستطيع أن نستأجر منهم عشة نسكنها. وعند وصولنا على الطرف الآخر من الخور استمرينا في المشي حتى منتصف الليل لنصل إلى مكان العشش وقد تمكن منا التعب والإعياء. واستأجرنا إحداها بعشرين روبية لمدة ثمانية أيام. العشة تقارب في مساحتها محضرة (غرفة) أم سهمين (12 فوت في 8فوت)، إلا أنها دائرية الشكل، يتوسطها سهم (عمود) مدور من خشب البحر، ومفروشة بحصير قديم. ولم نستلذ بالنوم في تلك الليلة إذ كانت أصوات الإذاعات الهندية والفارسية والعربية تصدر من العشش المجاورة ومرتفعة إلى درجة الإزعاج، وعندما أصبحنا في اليوم التالي نبحث عن الحمامات أتانا الرد المختصر: إن البحر قريب”. ص21-22
وفي الكويت لم يعط المؤلف أي اهتمام بالكويتيين، بل بزملاء رحلته من مدودة وتحديدا أعضاء صحبة الوفاء: محمد وصالح ابني يسلم بن دحباج اللذين سكنا معه في العزبة نفسها وكوّن معهما شراكة تجارية دامت أكثر 33 سنة، بدأت بتحميس الحنظل في حوش العزبة، وبعد أن فتح الله عليهم في تحميس الحنظل وتوزيعها فكروا في فتح دكان، وكتب ربيع: “كنا قد قاربنا السنتين في الغربة، ولا يزال المستقبل مجهولا، والتفكير الذي يشغل بالنا كان في كيفية الحصول على محل وفتح دكان خاص نضمن من خلاله دوام العمل والاستفادة من غربتنا التي أدركنا أنها ليست سوى ضياع عمر وفرقة أهل وأحباب”. ص30 ثم فتحوا معرضا للثياب الجاهزة أطلقوا عليه (معرض حضرموت)، وحينما درّ عليهم المعرض بعض المال بدأوا التفكير في الاستثمار في بلادهم على الرغم من عدم تشجيع النظام اليساري آنذاك للقطاع الخاص في جنوب اليمن. وفي البداية قاموا بشراء أرض زراعية في جعيمة ومكينة حراثة (دراكتر) وسيارة وكله بالشراكة.
ويضيف ربيع: “في بداية عام 1971 استقر بنا الرأي على فتح عمل تجاري بسيؤن –حضرموت، أكون أنا مستقرا فيه لإدارته بينما يبقى محمد وصالح [دحباج] للقيام بأعمال الكويت: دكان خيطان وناصفة البقالة إلى أن يقوى العمل في حضرموت، حينها يتركون عمل الكويت والغربة ونستقر جميعنا في وطننا”.
وقد كرس المؤلف الجزء الأكبر من نصه لتقديم أبرز الأحداث التي عاشها في مدودة وسيئون. ومن خلال سرد تلك الأحداث تبرز لنا كثير من جوانب الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي كانت سائدة في حضرموت بين عام 1963 و1996.
ومع ذلك هناك كثير من النقاط التي تـُبعد هذا النص عن أدب السيرة الذاتية؛ منها: غياب السعي للتقديم الإجمالي للذات. فالمؤلف اكتفى بسرد موجز ومركز للأحداث المهمة التي عاشها خلال ثلاث وثلاثين سنة، وظل نصه خاليا من التقييم والمشاعر. كما أن المؤلف، الذي ألحق بنص الرحلة أربع قصائد طويلة، لم يحاول أن يمزج بين الشعر والنثر داخل نصه مثلما فعل علي بن حسن العطاس في كتاب (سفينة البضائع وضمينة الضوائع) مثلا. وتذكرنا تلك القصائد الشعبية، في بعض جوانبها، قصائد سالم خميس كندي التي كانت مجلة الطليعة اليسارية الكويتية تنشرها في ستينيات القرن الماضي. لكنها في الغالب تعبّر أكثر من النص النثري عن مشاكل الغربة والاغتراب والاحساس بالتعاسة بعيدا عن الأهل والأرض. ونقتطف من القصيدة الثالثة المؤرخة في 27 يوليو 1966 الأبيات الآتية:

قال الفتي سهران طول الليل والأمة سكون
فكرت في حالي ومن فرق الوطن مرّت سنون
لما متى يا رب نشوف النور من بعد السجون
ونشوف بلدتنا تعمر مثل لي هم يعمرون
من بعد حط طابع عا المكتوب خمس وأربعون
بريد جوي والموزع قلّه احذر لا تخون
سلمه يد الأب وهو يقرأه عا الأم الحنون
وقبّل الأولاد جنب الدار شفهم يلعبون
وقل لهم الأسفار صعبة حسب ما أنتم تعلمون
وبُعدنا قرّب وبعد العسر با تتيسرون
وأخبر محمد لي على الخاطر مكانه ما يهون
لأنه شريكي في الألم أما الفرح جم با يحضرون
وقل له الأولاد من فضلك متي با يتصورون
من شد الحسرة يحن القلب وتهش العيون
ما هو سوى منك مضين أشهر ونحن في سهون
وذكركم دايم عساكم مثلنا با تتذكرون

وقرر ربيع بن عبيد الله، وبعد عودته من الكويت، أن يفتح (معرض الكويت) في سوق النساء بسيئون، الذي استطاع عدد كبير من أبناء مدودة الاستحواذ على كثير من المواقع المهمة فيه، لا سيما في مجال الذهب والأواني بمختلف أنواعها، ومعظمهم من المهاجرين الذين فضلوا العودة إلى حضرموت والاستقرار في بلادهم.
وعندما يتحدث ربيع عوض بن عبيد الله، في كتابه (رحلة الكويت وصحبة الوفاء)، عن نجاح الدكان الذي افتتحه في سوق النساء بسيؤن في مطلع عام 1971، يؤكد: “يوما بعد يوم حاز الدكان على رضا الزبائن، وكسب شهرة واسعة، حتى أننا صرنا بعد ثلاث سنوات من افتتاحه من الدكاكين القليلة التي تستطيع تموين عروسين في نفس الوقت بكامل التجهيزات المطلوبة؛ من ثياب وعدة شاي وعطورات وأدوات تجميل ودواليب ونحوه”. ص42
وفي أبريل 1971 ودّع ربيع أرض الغرب وعاد إلى حضرموت، ويقول: “بدأنا في التحضير لفتح ما خططنا لفتحه من عمل تجاري، وكان الوضع السياسي حينها في جنوب اليمن غير مشجع للقيام بأي عمل تجاري، وكان كبار التجار المعروفون في المنطق يحولون أعمالهم إلى الشمال. إلا أننا قررنا الإقدام على تأسيس مشروعنا خصوصا أننا لمسنا تشجيعا وارتياحا من الأهل، فقد كانوا يقولون لنا: “الخير والبركة في بلادكم عند أهلكم. ومال ما هو في بلدك لا لك ولا لولدك. فكما آلمتنا الغربة آلمتهم. وكانوا يفضلون أن نبقى إلى جانبهم، وإرضاءً لهم مضينا قدما”. ص40
واللافت في شراكة ربيع بن عبيد الله ومحمد وصالح أبني يسلم بن دحباج أنها بنيت على الثقة المتبادلة بينهم، ولم تخضع مطلقا لأي نوع من التوثيق العرفي أو الرسمي. وقد أكد ذلك ربيع قائلا في الصفحة الأخيرة من الكتاب: “استمرت شراكتنا قرابة الثلاثة والثلاثين عاما. لم يحصل خلالها –والحمد لله- أن دخلنا مركز شرطة بتهمة أثبتت علينا. كانت معاملتنا مع التجار في عدن وسيؤن حسنة وطيبة عنوانها الثقة والأمانة حتى بلغت أننا صرنا من أوائل من تعرض عليهم البضائع فور نزولها إلى الأسواق ونملكها كاملة. أما علاقتنا كشركاء فقد كان أساسها الصدق والصراحة والمحبة والثقة ومراقبة الله والخوف منه، ولم تكن هناك وثيقة رسمية أو عرفية موقعين عليها توثق تلك الشراكة، وعندما تصادفنا مشكلة نناقشها في وقتها ويعترف المخطئ بخطئه وتتم معالجتها فيما بيننا ولا نخرج خارج دائرتنا، أو ندخل أحد سوانا لحلها حتى وإن أدت تلك المشاكل في بعض الأحيان إلى خسارة فأنه، بعد أن نجتمع ونتناقش بكل هدوء وصراحة نخرج مقتنعين كاسبين حب بعضنا بعضا. كثير من الناس كانوا يتساءلون عن سر استمرار تلك الشراكة كل تلك السنين لعلمهم أن كلا منا في مكان بعيد عن الآخر، آلاف الكيلومترات بين حضرموت والكويت. والسر الحقيقي وراء ذلك يكمن في الثقة الراسخة في القلوب وحسن الظن فيما بيننا، فكل واحد منا واثق ومتأكد أن رفيقه وشريكه يعمل لصالح الشراكة ولن يخذله في أي حال من الأحوال. وبعد كل تلك السنين، في فبراير 1996، بسبب كبر الأسر وعامل العمر، قررنا بكل ود وحب ورضا أن نقسم شراكتنا وكل واحد منا داع لأخيه بالخير والبركة، وظلت بعد ذلك وإلى اليوم علاقتنا الأخوية والأسرية يسودها الود والحب”. ص43-44

مشــــاركـــة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى