عوض بامدهف.. نسيانك محال..!

أبين ميديا
كتب ـ محمد العولقي

هكذا هي المواهب النادرة تظهر بسرعة و تختفي بنفس السرعة، و الأستاذ عوض بامدهف ظاهرة إعلامية فريدة من نوعها يصعب تقمص أدوارها أو محاصرة مواهبها الكثيرة أو سبر أغوارها في وقفة خاطفة.

  • كانت قناعتي الدائمة أن الأستاذ عوض بامدهف ظاهرة مثل ليونيل ميسي يصلح لكل التموضعات الإعلامية (مقرؤة .. مرئية.. و مسموعة)، و لا عجب في هذا الخليط مع أستاذ بارع في اللغة و عميق حد التعمق في الطرح و الأسلوب، إن كتب برع في طرحه، و إن حاور أو جالس تعملق في فنون الإقناع، و إن طل مذيعا أو مقدما لفقرات حفل بز الجميع و غلب الكل و ركنهم على الهامش.
  • ينتمي الأستاذ عوض بامدهف لجيل لا يطلب و لا يلح و لا يستكين، عاصر الصحافة الرياضية جنوبا منذ أن كانت مجرد نطفة في علم الغيب، و من تجلياته الإبداعية بنى للإعلام الرياضي صرحا ممرودا صحبة رفاق عاهدوا فثابروا و أخلصوا فأجادوا.
  • في زمن كان فيه الحديث عن الستلايت و الموديم و الشبكة العنكبوتية مجرد مصطلحات تستنجد بها وكالات الأنباء للحديث عن الحرب الباردة أو حرب النجوم، كانت الصحافة الرياضية جنوبا تنمو في كنف عباقرة الحرف بأدوات بدائية، و كان الأستاذ عوض واحدا من فرسان الميدان، يتنقل من محطة إلى أخرى دون كلل أو ملل، ثم يعود من الميدان متأبطا الجمل بما حمل.
  • هو شاهد عيان مخضرم .. عاصر الصحافة الرياضية وقد أطلت من عليائها محاقا في سماء جنوب خرج للتو من سترة الباغي و الطاغي، و في عهده و عهد الرعيل الأول كبر المحاق حتى أمسى بدرا ينير سماء وطن رياضي يتلمس سبيل الرياضة الحديثة.
  • و من جيل الرعيل الأول حط الأستاذ عوض رحاله في محيط جيل الوسط و كأنه ابن بطوطة، و بقلبه الأبيض الشاب الذي لم يشخ يوما ملأ الدنيا بروحه و بحلاوة طرحه و بمهنيته الراقية.
  • و مثل طائر السنونو الباحث عن ربيع الحكمة الفائضة وجد الأستاذ عوض نفسه موجها و مرشدا لجيل ثالث متسرع يركض دون وعي نحو القمة العالية.
  • كان الأستاذ عوض – رحمة الله عليه – ينزعج لهذا الانحدار في المهنية، و قد قالها لي متبرما:
    مثلما كان الشاعر أحمد شوقي يخشى على العربية من بيرم التونسي، أشعر الآن بأعلى درجات التبرم من هول هذا التدافع الإلكتروني الذي لم يعد يفرق بين المهنية و المهلبية و لا بين النطيحة و المتردية.
  • أكثر ما جذبني إلى مجالسة الأستاذ عوض و الاستئناس بآرائه أن له روح دعابة ساخرة تسلب الألباب و تخطف القلوب، كان يعرف متى يمزح و يتحول إلى هازل متهكم، و متى يستعيد كياسته و وقاره فلا ترى أمامك إلا فارسا جادا في طرحه و في وصاياه؟
  • عطاء الأستاذ عوض يناهز نصف قرن، رحلة عطاء طويلة شكلت وجدان شعب و إحساس جمهور تربى و ترعرع و رضع من حليب مفردات جيل الأستاذ عوض.
  • رحل الرفاق واحدا تلو الآخر و بقي الأستاذ عوض صامدا في عدن يمنحها من أنفاسه العطرة قبلة الحياة، لم يتذمر حتى و هو يشاهد (الرعاع) و قد أحكموا قبضتهم على الرياضة، ظل ذلك الرجل المتفائل الجاد إلى درجة الهزل أحيانا، لا أعتقد أن هناك ما هو أجمل و لا أروع من هذه المفارقة التي تضع الأستاذ عوض في بروازه الصحيح.
  • لا أحد يشبه الأستاذ عوض بامدهف في براعته و في ثعلبيته، كان يعرف كيف يرفع إيقاع الحوار إلى درجة الالتهاب و الغليان، و كيف يخفضه بعد ذلك إلى درجة التجمد، كان يتسلح بكل أدوات الإجادة و البراعة ، متحدث فوق العادة يعجن مفرداته بمختار الصحاح و يوزن كلماته بالقاموس المحيط، فلتة من فلتات الزمن لا و لن تتكرر شأنه شأن كل الظواهر التي تثير اهتمام الناس ثم تختفي و تتلاشى و تصبح على ألسنة العامة أسطورة من أساطير الزمن.
  • رحل الأستاذ عوض بامدهف في هدوء، انسحب الفارس من الميدان دون ضجيج، ترجل أخيرا مودعا محبيه بقليل من الأمل و الكثير جدا من الألم، لم يكن ليهدينا في لحظة الحشرجة سوى تلك الابتسامة الصافية التي تلخص كتاب حياته المليء بالحكايات التي لا تنسى.
  • رحل الفارس العدني تاركا خلفه وطنا ينزف و بلدا يدفع كل يوم فاتورة استعادة الأمجاد من دماء أبطاله، و بامدهف بطل تشهد له جبال و شواطئ و رمال عدن، كم جابه الظلم و تحداه وجها لوجه؟
    كم مرة مارس العمليات الاستشهادية في داخله و لم يبك أو يطلب ثمنا لذلك؟
    كم مرة اغتاله المتطحلبون على رياضتنا لكنه بقي حيا ضد كل محاولات الاستهداف؟
  • أما و قد آخى جسد الأستاذ عوض ثراء عدن مخلفا خلفه دنيا دوارة، فلا يمكن قياس عمق و حجم خسارة رجل مثله دون التمعن في سيرته الإعلامية المبهرة، و مثل بامدهف نسيانه محال محال محال..!
مشــــاركـــة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى