تطور الأزياء(الملابس) في حصن بن عطية ونواحيها

كتب : الدكتور سعودي علي عبيد

يمكن الإشارة إلى الأزياء أو الملابس، أنها كانت متواضعة بشكلٍ عام، أكان فيما يخص ملابس الرجال، أو النساء، أو الأطفال. وهذا الموضوع يختص بمراحل زمنية متقدمة جدا، حتى قبل ميلاد جيلنا.
فبالنسبة للرجال، فأن ملابسهم كانت مقتصرة على الإزار أو المئزر، وكان يُطلق عليه “المصنف”. وفي يافع الجبل يطلقون عليه ” المقطب”. ونادراً ما ترى بعض الناس يضعون شيئاً على جزأهم الأعلى(ظهورهم)، مثل القمصان (الشميز) المعروف لدينا اليوم. وكان الناس يطلق على هذا النوع من الملبس بـ” المدرعة “. كما كان بعض الناس يغطون رؤوسهم بقطع من القماش بما يشبه العمامة. ولم يكن غالبية الناس تملك الكثير من الملابس، وذلك واقع مرتبط بالحالة الاقتصادية والاجتماعية، التي كانت سائدة آنذاك.. والغريب أن بعض الرجال من سكان الحصن، ظلوا لا يلبسون القمصان(الشميز) حتى بعد أن صار لبس القمصان مشاعا وتقليدا سائدا بين عامة الناس. ونذكر منهم الوالد حسين قارش، وذلك على سبيل المثال لا الحصر.
وبالنسبة للنساء، فإن لباسهن كان عبارة عن ثوب طويل يغطي كامل الجسم، وبما يشبه الجلباب. وتضع النساء على رؤوسهن أنواعاً من القماش، أخذتْ تسميات متعددة، منها المقرمة، كما يطلق عليها ب”الشبكة”. وكانت تصنع محلياً، وخاصة في يافع الجبل، وهو يغزل على النول اليدوي. وقد تخصصت النساء بنسجه. وفي الغالب كانت تجلب من يافع الجبل، وتباع في المناطق الساحلية، إما نقداً أو عيناً.
كما كانت النساء يلبسن قطعة من القماش مفتوحة من الأعلى والأسفل، وهي تغطي جزء المرأة الذي يمتد من الخصر حتى تحت ركبتيها. وهي بألوان واحدة إما بيضاء أو سوداء أو سواهما. وكان يطلق عليها ب”الجوجرة”، وأعتقد أن الكلمة هندية(والله أعلم). وكان ذلك قبل أن تظهر الملابس الداخلية(السراويل) للرجال والنساء.
وبالنسبة للأطفال الذكور ما دون سن البلوغ، فكان لباسهم السراويل القصيرة والقمصان(السترة)، إن تيسر الحصول عليها. أما بعد البلوغ، فيلبسون مثل ما يلبس كبارهم. أما البنات الصغار، فيلبسن مثل ما تلبس النساء، ولكن كل بنت بحسب حجمها.
وبشكلٍ عام، فإن الملابس لكل الفئات العمرية وللجنسين، كانت متواضعة جداً، أكان من ناحية الكم أو الكيف، وذلك ما يخص المرحلة الأولى، أو فترة ما قبل النهضة الزراعية في الدلتا.
كما حدث تحسن ملموس فيما يخص لباس المجتمع بفئاته المختلفة (الرجال والنساء والأطفال، والأغنياء والفقراء، وما بينهما). وباختصار شديد فقد عرف الناس ولبسوا مختلف الملابس الحديثة، التي لم يكونوا على علمٍ بها سابقاً، ودخلت إلى المنطقة بمعية النهوض الاقتصادي الذي نحن بصدده. فقد ارتدى الرجال والأطفال السراويل الطويلة (البنطلونات)، والقمصان (الشمزان) بنوعيها، أي بالكُّم الطويل والقصير. وكان الجزء الأكبر منها مستوردة من الخارج. وكان أفضل تلك القمصان المستوردة من بريطانيا. كما ارتدى البعض البدلات الرسمية، أو ما يطلق عليه البدلة الإفرنجية (الكاستيوم). كما استخدم الناس مختلف الأحذية الحديثة المستوردة.
كما ظهرت أنواع مختلفة وكثيرة من(الشباشب)، أكثر مما نجده في زمننا الراهن. علماً أنَّ هذا النوع من الحذاء مخصص فقط لاستخدامات الحمامات، أو للاستخدام داخل المنازل. أما عندنا وفي ذلك العهد، فقد استخدمت على نحو عام، أي في داخل المنازل وخارجها. وما زالت هذه العادة متبعة عند البعض حتى اللحظة. وأتذكَّر أن والدي(الله يرحمه) كان يشتري لي كل نوع من تلك النعال (الشباشب)، فور نزولها إلى الأسواق.
وكان لانتشار التعليم الحديث، وتأسيس الإدارة الحكومية الحديثة، وظهور العديد من المهن الحرة، أثراً مباشراً في تقبُّل الناس لارتداء الملابس الحديثة، باعتبار أنَّ كلَّ المهن والوظائف المذكورة، تتطلب تغييراً إلزامياً في الملبس، كما هو الحال عند تلاميذ وطلاب المدارس الحكومية بمختلف مستوياتها التعليمية. كما أنَّ ذلك يسري على الذكور والإناث على حدٍّ سواء. وعليه فقد ارتدى الكثيرون السراويل الطويلة، المعروفة بالبنطلونات.
كما ارتدى الرجال كذلك أنواعاً مختلفة من الملابس كالفوط والمعاوز ، وكانت الفوط تستورد من خارج البلاد، مثل إندونيسيا والهند على سبيل المثال لا الحصر. وكانت المعاوز تصنع في الغالب محلياً. وقد تخصصتْ كلٌّ من شبوة ولحج وحضرموت، بإنتاج هذا النوع من اللباس(المعاوز). وكان يُطلق على بعضها (المعاوز السعيدوني). وكانت تنسج على أنوال يدوية، ومادتها الخام إما من الخيوط المصنوعة من القطن، أو من الخيوط المصنوعة من الحرير. وكانت تمتاز هذه الأنواع بتعدد وكثرة ألوانها الزاهية الجذَّابة. وقد عادت صناعة المعاوز المحلية حالياً، بعد أن توقفتْ تماماً هذه الصناعة لفترة، وذلك بفعل منافسة الصناعة الأجنبية لمثل هذه السلعة، بسبب رخص أسعارها. وقد أُطلق على الفوط تسميات عدة منها مثلاً: فيصل علوي(الفنان)، وغيرها من الاسماء.
كما ارتدى بعض الرجال العمائم على الطريقة الهندية، وذلك كما أعتدنا على مشاهدتها في الأفلام الهندية القديمة. ومن المؤكد أنَّ ذلك قد حدث بفعل التأثر ببعض العادات الهندية، التي نتجت بسبب العلاقة التاريخية بين الهند ومجتمع الجنوب. كما ارتدى الكثير من الرجال والأطفال الكوفية(الطاقية). وهو نسيج من القطن أو الحرير، يوضع على الرأس. وقد نُسجت الكوفية – وتجمع على كوافي – بأنماط مختلفة. كما أخذت تسميات متعددة كذلك. وكان أشهرها الكوفية الزنجباري نسبة إلى زنجبار الواقعة في شرق أفريقيا. ولن أكون مبالغاً إذا قلت، أنني قد لبست في صغري كل أشكال الكوافي التي عرفها الناس حتى وفاة والدي في عام 1960م. وهذا عائد إلى حبه الفائق لي، وحرصه على شرائه أفضل الملابس لي. وبشكلٍ عام، كانت النساء هن المتخصصات الوحيدات في صناعة هذا النوع يدوياً. كما بدأ الناس من كلا الجنسين بارتداء الملابس الداخلية – مثل الفانيلات والسراويل الداخلية – التي لم تكن معروفة لديهم قبل ذلك التاريخ.
وكان للنساء نصيبٌ وافر من تلك الطفرة المالية، التي تحققت بفعل أسعار القطن. حيث لبسنَ أنواعاً وأشكالاً متنوعة من الملابس الطويلة والقصيرة. فمنها ما هو على الطريقة العربية، ومنها ما هو على الطريقة الإفرنجية. ومنها المستوردة الجاهزة، ومنها تلك التي يجري تجهيزها عند الخيَّاطين أو الخيَّاطات، أو ما يُطلق عليهم بـ(الترزي أو الدرزي) .
وكانت ملابس النساء منسوجة من مواد مختلفة، مثل القطن والحرير، أو تلك التي صُنعتْ من مخلفات البترول. وفي المناطق الساحلية الحارة غالباً ما تحبذ النساء الثياب الخفيفة، المشهورة بـ(الدرع)، بالدال المكسورة والراء الساكنة، وتجمع على(درُوع). ولفظة(الدرع) بمعنى ثوب المرأة، تعتبر عربية فصيحة. وفي ذلك يقول الأعشى:
صِفْرُ الوشاحِ وملءُ الدرعِ بهكنةً
إذا تأتى يكاد الخصرُ ينخزل.
كما يُطلق أيضاً عليها (الويل)، بكسر الواو وسكون الياء، وتجمع على(ويلات).
ولذلك قال أحد الشعراء الشعبيين في هذا اللباس النسائي:
محلا الويل والمقرمة
لما تلبسه. بدوية
أما في المناطق الداخلية والجبلية على وجه الخصوص، فكان النساء يفضلنَ الملابس الثقيلة والطويلة، وذلك بسبب برودة الجو في تلك المناطق على امتداد القسم الأعظم من أيام السنة.
وفي الغالب فقد كانت تنسب صناعة هذه الملابس إلى اليابان، فيُطلق عليها (الويل الياباني)، وكانت تلفظ محلياً (جبَّاني). كما ينسب نوع آخر من هذه الأقمشة إلى سويسرا، فيطلق عليها(الويل السويسري). كما ينسب نوع ثالث إلى جيبوتي. وهكذا دواليك. كما أنَّ هذا النوع من الثياب تأتي على درجات. فمنها ما يقع في المرتبة الأولى، وتوصف بـ(الأصلي) أو الولايتي، والمقصود بذلك أنها من نوعية ممتازة. ومنها ما يحتل المرتبة الثانية أو الثالثة، ويطلق عليها بـ(الهشتِّي). ومن المؤكد بأنّ هذه الكلمة أصلها أعجمي، وقد تكون هندية. وهناك نوع من ملابس النساء كان يطلق عليها “الشيت”، ذات نوعية متدنية، وأسعارها رخيصة.
وقد أخذت ملابس النساء(الدروع أو الويلات)تسميات مختلفة. وغالباً ما كانت تلك التسميات هي لمشاهير السياسة والفن. فظهرت ويلات باسم الفنانة اللبنانية(صباح)، وأخرى باسم الفنان(فريد الأطرش)، وهكذا دواليك. وفي فترات لاحقة أخذت تسميات أخرى.
وبسبب تزايد الطلب على الملابس المدرسية لكلا الجنسين، وبسبب تزايد طلب موظفي الخدمة المدنية، وأصحاب المهن المختلفة على الملابس الحديثة، وكذلك تزايد طلب النساء بمختلف أعمارهن ومستوياتهن الاجتماعية للملابس بكل أشكالها، فأنَّ كل ذلك أدَّى إلى ظهور فئة الخيَّاطين من الجنسين. وبالنسبة للخيّاطات فقد مارسن هذه المهنة من منازلهن. أما الخيَّاطون من الرجال فقد مارسوا هذه المهنة في أماكن خاصة، جرى استئجارها لهذا الغرض.
ومن أشهر الخيَّاطين على مستوى منطقة الدلتا، نذكر محمد. بشر العريقي، والأخوين عبد الرقيب وشايف درهم في الحصن. وسلام أحمد ثابت العامري ومحمد ثابت في جعار. وجميعهم أتوا من منطقة الحجرية إلى المنطقة في بداية النهضة الزراعية، التي حدثت في منطقة الدلتا. وقد سكنا وعاشا طوال حياتهما في مدينة جعار. وكان الخيَّاط (سلاَّم) يقوم بخياطة جميع الملابس الرجالية والنسائية وللأطفال. وكذلك كان يقوم بإعداد الملابس المدرسية للجنسين في بداية كل عام دراسي ، وقد تولى خياطة ملابسي الخاصة، أكانت الخاصة بالدراسة، أو تلك الخاصة بالمناسباًت الدينية(الأعياد) ، وكان والدي مواظباً على التعامل معه، فكان يصحبني معه في كل مناسبة، أو قبل بداية كل عام دراسي. ثم انتقل الخيّاط العامري إلى خياطة ستائر المنازل وأغطية السيارات(الطرابيل)، وتنجيد مقاعد السيارات. وكان ذلك بسبب توجه الناس إلى استعمال الملابس المستوردة الجاهزة. وقد تصادف أن سكن (سلاَّم العامري) في سنوات حياته الأخيرة في منطقة اللحوم في جعار، بجوار منزل والدته، وقد التقيت به في الفترة الأخيرة من حياته، وجرى استذكارنا للعديد من ذكريات السنوات الخوالي. وقد قضى(رحمه الله) بالمرض الخبيث في 7 يوليو عام 2008م.
وبشكلٍ عام، فقد كانت مهنة الخياطة محتكرة من جانب أولئك الأشخاص الوافدين من منطقة الحجرية. وبحق يعتبر الخياط سلاَّم واحد من أعلام مدينة جعار.
كما أنَّ الرواج الكبير لتجارة السلع الخاصة بالنساء _ من ملابس وشيادر(شراشف) واكسسوارات وأدوات تجميل وغيرها _ قد نتج عنها افتتاح العديد من المعارض التجارية المتخصصة في بيع هذه السلع. وكانت مدينة جعار هي المنطقة التجارية الأولى في منطقة الدلتا. وكانت تحتضن العديد من هذه المعارض. ومن أهمها: معارض؛ العوادي، ومحمد ثابت، والسيد علي السروري، وغيرهم. وكان الأخير هو الأشهر على الإطلاق، وهو من منطقة تعز أو الحجرية. وكان معرضه ذاك قد شكَّل مركز جذب لتسوّق جميع الأجناس، من الرجال والنساء والأطفال لعدة عقود. وكان (السروري) مشهوراً بترديد عبارة معينة على زبائنه بشكل عام، وعلى زبائنه من النساء على وجه الخصوص. أي أن تلك العبارة كانت تشبه ما يُطلق عليها باللازمة، وذلك كما هو حاصل عند ممثلي السينما أو المطربين ، وهذه العبارة أو(اللازمة)، تتمثل في ترديد (السروري) لكلِّ مشترٍ عبارة: (والله ما أكذب إلاَّ عليك). وكان يقولها عندما يريد أن يؤكد، صحة سعر السلعة المراد شراءها. وكان يحرص أن ينطق عبارته تلك بسرعة، فكان يخال للمشتري أنَّ (السروري) ينطقها هكذا (والله ما أكذب عليك). وأتذكر أن لي حديثا حول هذا الموضوع. كما كان عارضا صورة أو رسمة لشخصين، أحدهما بدين يترجم عن حالة البائع الذي يبيع نقدا، والآخر نحيف، يترجم عن حالة البائع الذي يبيع دينا. والمعنى واضح.
وإلى جانب هذه المعارض، ظهر وانتشر الباعة المتجولون – رجال ونساء – أو ما يُطلق عليهم بـ(الدلالين). وكانوا يقومون بالمرور بين الأزقة والحارات، فيتم استدعائهم من قبل الراغبين بشراء ما يحتاجون إليه من ملابس واكسسوارات وغيرها، وكان الغالبية العظمى من زبائن أولئك الباعة هم من النساء. وكان يتم دفع أسعار تلك السلع إما نقداً أو بالتقسيط. وكان أولئك الباعة من الجنسين. وكان أشهر أولئك من الرجال اثنان من شقرة وآخر من لحج يدعى صالح اللحجي. أما النساء فكلهن من شقرة
وكان أولئك الباعة المتجولون متخصصين أكثر في بيع ملابس النساء الدروع أو الويلات، والشراشف(الشيادر)، والأساور التقليدية المصنوعة من الزجاج، والعاج الصناعي، والبلاستيك، والتي كان يطلق عليها(الزنود). ويبدو أنَّ الفنان الكبير محمد سعد عبدالله(الله يرحمه)، قد استوحى أغنيته الجميلة(مابا بديل) من تلك الظاهرة، التي كانت منتشرة في مختلف نواحي الجنوب، حيث نجده يقول في أحد مقاطع هذه الأغنية الرائعة:
تذكَّرتهْ إذا نفنفْ برودْ
على جسمه وحرَّكْ شرشفهْ
وذي اليدينْ ذي فيهم زنودْ
يطوقني بهم لمَّا أرشفهْ
وإذا كان لمعان المعدن الأصفر(الذهب)، له سحره الجذَّاب في نفس وهوى كلّ من تقع عليه عيناه. فكيف هي الحال إذا ما توشحت النساء به، مزينات أنفسهن به مع تلك الثياب الجديدة، المنسوجة من الحرير..وهذا موضوع آخر.

28 رمضان 1445 الموافق 8 إبريل 2024

مشــــاركـــة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى