الفاشر… شهادة الشيطان

كتب ـ صلاح الرامي
أنا الشيطان، ومن قلبِ هذا الجحيم المستعر، أُقدم شهادتي.
أنا الذي رأيتُ كل خطيئةٍ وُلدت، أقفُ اليوم في “الفاشر” مذهولاً، كالتلميذ في حضرة أستاذٍ فاقَ مُعلمه فنّاً.
ههنا، الموت ليس رصاصةً طائشة تُنهي حكاية؛ بل هو طقسٌ دقيق، ومسرحيةٌ متقنة الإخراج، يتلذذ فيها الجلاد برسم آخر رعشةٍ على جسد الضحية. القتل هنا… فنٌّ أسود يُدرَّس في العراء.
رأيتُ بعيني هاتين، اللتين مَلَّتا أهوال الأزمان، ما لم ترياه قط.
رأيتُ جسداً نحيلاً يُمدّد قسراً تحت جنزير دبابة، لم يكن يصرخ، بل كان يئنّ… أنيناً طويلاً كأنه الدهر، قبل أن تسحقه آلة الموت الباردة، ليُمحى الأثر ويبقى الدرس: هنا، الإذلال يسبق الموت!.
أدرتُ بصري، علّني أجد مَهرباً، فإذا بي في قلبِ مأساةٍ أعظم. رأيتُ أمّاً… يا لوجعِ الأمومةِ حين تُهان! كانت تُقلّب بصبرٍ مهزومٍ جلد بقرةٍ عفن في قدرٍ، تطهوه بدموعها لتسدّ به رمق أطفالٍ نسوا شكل الحياة. أحدهم، يا لسخريتي، لم ينتظر… لقد اختطفه الموت جوعاً قبل أيام، فباتت تُطعم الأحياء على ذكرى من رحل.
أنا الشيطان، أُقرّ وأعترف: لقد تجاوز الإنسانُ حدودي. علّمتُه الوسوسة، فابتكر هو “فن الإبادة”.
كيف لروحٍ بشرية أن تبتكر من الألم طقوساً يومية؟ كيف لها أن تستمتع بمشهد القتل كأنه نصر؟ لقد باعوا أرواحهم، لا بثمن، بل بخسارةٍ وجدوا فيها متعتهم.
هؤلاء ليسوا مجرد قتلة عابرين؛ إنهم كهنة “اللا-رحمة”، أعادوا تعريف القسوة، وكتبوا بدم الأبرياء اسماً جديداً للوحشية.
وماذا عنكم أيها العالم؟
إن صمتكم الدولي ليس حياداً، بل هو صفقةٌ تُعقد كل ليلة على أشلاء الفاشر. إنه الحبر الذي يُوقّع به على مرسوم الموت.
لا تظنوا أن الفاشر خبرٌ في نشرة المساء، يُطوى مع طلوع الفجر.
لا… إنها شهادةٌ دامية تُحفر في خاصرة الضمير الإنساني. ومن اختار أن يُصمّ أذنه عن هذا الأنين، فقد نصّب نفسه شريكاً في الجريمة.







