وداعا يا سيد اليراع
كتب : محمد ناصر العولقي
انتقل اليوم الى رحمة الله الشاعر الكبير والناقد والمفكر الثوري اليساري الأستاذ سلطان الصريمي بعد رحلة خصبة من العطاء ، وعمر كفاحي طويل حالما بوطن سعيد وعادل وحياة كريمة لأهله وثقافة خالية من التعصب واحتقار الآخر …
لقد غيب الموت نجما من نجوم الثقافة والأدب والسياسة خاض صولات وجولات بالفكر انتصارا لما كان يحمله من قناعات سياسية وأفكار ومواقف ، وسطر بيراعه أحلى الأشعار المصبوغة بتفاصيل الحياة اليومية في الريف والمدينة التي غناها كبار الفنانين في الشمال والجنوب …
عرفت الأستاذ سلطان ، رحمه الله ، عن قرب في عام 2004 ، وفي منتصف مايو 2005 خضنا مارثونا تنافسيا قويا في انتخابات الأمانة العامة لاتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين في صنعاء ، إذ كان الأستاذ سلطان ضمن تكتل القوى اليسارية ( الاشتراكي والتجمع الوحدوي وحلفائهم ) في المجلس التنفيذي للاتحاد الذي ينتخب أعضاء الأمانة العامة ، وكنت أنا ضمن تكتل الوسط ( المؤتمر الشعبي وبضعة مستقلين ) ، وقد كان تكتل اليسار متفوقا عدديا عنا ( 17 مقابل 14 ) ، وإضافة الى هذا فقد كان تكتل اليسار متفوقا عنا أيضا بالتاريخ الإبداعي والنقابي والصيت والحضور الكبير لمرشحيه الى الأمانة العامة أمثال الأساتذة الكبار أحمد قاسم دماج ومحمد حسين هيثم ود. سلطان الصريمي ود. زين السقاف ود. جنيد الجنيد ود. مبارك سالمين وغيرهم ، وقد جرت محاولات كثيرة من قبل المؤتمر الشعبي للتوافق على قائمة موحدة ولكنها فشلت لإصرار اليسار على الاستحواذ على الأغلبية وعلى المناصب الأولى ( الرئيس والأمين العام والأمانة المالية ، فتم الاحتكام الى الصندوق ، وكانت ثقة اليسار في الفوز لا حدود لها ، واستنفر المؤتمر كل طاقاته وخبراته في الاستقطاب ، ودخل في مرحلة تحد للفوز بالأغلبية ، وتفرغ كبار رجال الدولة لمتابعة الحدث الانتخابي ، بتوجيه مباشر من الرئيس علي عبدالله صالح الذي كان يشرف شخصيا على عملية الحشد والاستقطاب واستمالة أعضاء من كتلة اليسار في المجلس التنفيذي للتصويت لقائمة المؤتمر الشعبي ، ورص صفوف كتلة المؤتمر للالتزام بصرامة للتصويت لقائمة المؤتمر بحذافيرها ….
وفي ليلة اجتماع المجلس التنفيذي عقد لقاء في مقر الأمانة العامة للمؤتمر الشعبي العام ضم رؤساء فروع الاتحاد في المحافظات من كتلة المؤتمر برئاسة المرحوم عارف الزوكا الذي كان حينها رئيسا لدائرة المنظمات ، وتم الاتفاق على قائمة تضم 11عضوا كلهم مؤتمر ما عدا د. عبدالله البار و د. هشام محسن السقاف ود. هدى العطاس والأستاذ أحمد ناجي النبهاني ، وفي اليوم التالي تمت الانتخابات وفازت قائمتنا بحذافيرها على قائمة تكتل اليسار ، وكان ذلك بمثابة حدوث زلزال داخل الاتحاد الذي ظل اليسار مهيمنا على أمانته العامة منذ تأسيسه في مطلع السبعينيات حتى ذلك اليوم ، واهتزت الساحة الثقافية والأدبية التي ظلت مصدومة بسقوط تلك القامات الكبيرة لعدة أشهر ، وساد التوتر لفترة في اجتماعات المجلس التنفيذي ، وكنا ( الدكتور الصريمي الذي تزعم الكتلة اليسارية وأنا ) في جدل ومشاحنات قوية ، وتحريض متبادل مع بقاء العلاقة الإنسانية بيننا في نطاق الود والاحترام الى درجة أن الأستاذ شوقي شفيق علق بفكاهية على ذلك بقوله ( الصريمي والعولقي ناقص إلا يتضرابوا داخل احتماعات المجلس التنفيذي وعندما ينتهي الاجتماع كل واحد يحتضن الآخر وهات يا بوس وضحك ومزاح ) ، ثم شيئا فشيئا بعد ذلك هدأت المجادلات بيننا بل وصرنا حلفاء على المستوى الشخصي ، و ( نتآمر ) معا حين يحتاج الأمر الى التآمر والكولسة ، واعتمدت عليه في التوجيه والنصح في كثير من عملي النقابي استفادة من خبرته ، وتعرفت منه على تفاصيل محطات كثيرة في الساحة الأدبية والثقافية والسياسية ، وعند اتخاذي لقرار الاستقالة من عضوية المؤتمر الشعبي العام في ديسمبر 2010 هاتفته من جعار ، وقلت له : سأعلنها يا دكتور سلطان ، فقال لي : لا تتردد .. والآن الآن وليس غدا ، ونفذت مشورته مباشرة .
في جلسة من جلساتنا معا حدثني الدكتور الصريمي عن أغنية ( نشوان ) قائلا : هذه الأغنية بقدر ما حققت من الشهرة والذيوع فإنها قد سببت لي مشكلة كبيرة كادت تطيح برأسي ، فحين لحنها وغناها المرشدي أواخر السبعينيات ، كانت الأوضاع بين الشمال والجنوب متفجرة ، والعلاقات في غاية العداوة ، والحرب الإعلامية بين نظامي صنعاء وعدن في ذروتها ، وقد كنت حينها في الحديدة ، وفوجئت بسماعها إذ أن المرشدي سلمها له أحد الرفاق في عدن وأعجبته فلحنها وغناها دون أن يخبرني ، ولكني لم أهتم كثيرا بالتداعيات إلا بعد أن نزل بعض الرفاق من صنعاء الى الحديدة وأخبروني بأن الرئيس علي عبدالله صالح أمر بالبحث عني وإحضاري حيا أو ميتا ، وذلك لأن بعض المقربين منه أقنعوه بأني كنت أقصده شخصيا ، وذكروا له أحد مقاطع قصيدتي / أغنيتي نشوان الذي أقول فيه :
نشوان أنا فريسة المصالح
ضحيّة الطبال والقوارح
من يوم خلق سيف الحسن و ( صالح )
وأنا غريب في قريتي أشارح
أبني المكاسر وأزرع البراصح
والفائده لمن مسبّه فاتح
والويل لمن في سوقنا يصارح
أو من بقي صدقه على الفضائح
وقام الرفاق بإخفائي ، وكنت كل ليلة أبات في مكان في ظل حملة بحث وتفتيش عني من قبل أجهزة الرئيس صالح ، وظللت هكذا قرابة ثلاثة شهور ثم قرر الرفاق أن أهرب الى عدن ، فانتقلت متخفيا من منطقة الى منطقة حتى وصلت الى عدن ، والحقيقة أنني لم أكن أقصد الرئيس صالح في قولي :
من يوم خلق سيف الحسن و ( صالح )
لأنني ببساطة كتبت القصيدة ونشرتها في مجلة الحكمة لسان حال اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين في بداية السبعينيات قبل تولي صالح الحكم ، وقد تولى الفقيد عمر الجاوي مهمة توضيح هذا الأمر للرئيس صالح ، ولم يقتنع الرئيس صالح إلا بعد أن أحضر له الجاوي نسخة من مجلة الحكمة التي نشرت فيها القصيدة ، فصرف نظر عن ملاحقتي .
رحمك الله يا سيد اليراع وأسكنك فسيح جناته وألهم أهلك وذويك ومحبيك الصبر والسلوان