الخروج من لودر الى عوين

 

شهاب الحامد

اسفل البيت يمينا وقفنا ننتظر بعضنا ونسمع صوت عبدربه في الامام وكان يقول رعونا بانمشي على السراط دي قلت لكم عليه كل واحد قفا خوه دلا دلا بعماركم .. نسمع كلاما خافتا ولا نرى السراط، مازلنا في ظلام دامس نسير على اصوات الخطى وضرب النعال، دقائق قليلة مرّت منذ الانطلاق حتى انزلق قدمي على طرف السراط هذا وتزحلقت وتعلق نصفي الى الخارج ونصفي الاخر ممسك بالجبل ، تمالكت نفسي واحسست انه بامكاني العودة اذا احسنت التصرف وبالفعل تسلقت وبصعوبة عدت بعد ان زلت قدمي اكثر من مرة في اكثر من محاولة ولكن الله لطف وعدت الى مكاني كما كنت ، سمعت عبدربه ينادي حد به شي ؟ قلت لا ربك سلم مافي شيء ، وكنت اشعر بالم شديد في الفخذ اليمنى وكانني جرحت جراء السقوط ، استمر سيرنا فيما تبقى ببطء وحذر وهكذا بدأنا ننزل بالتدريج الى ان بدأ الضوء يظهر من بعيد مما سهل علينا السير واتقاء المطبات والشقوق التي ادمت اقدامنا.
وصلنا عمق الوادي بعد جهد جهيد وسرنا فيه مايقارب الكيلو متر او يزيد قليلا حتى وصلنا الى ارض منبسطة ومزروعة معظمها بُر او شعير وجلسنا وسط الزرع لنرتاح ونسترد الانفاس ، وفي هذا المكان لاحظت شق في المعوز وتحت هذا الشق شق آخر في الفخذ انسلخ منه الجلد واحدث جرحا متوسطا تجلط حوله الدم من شدة البرودة كما اعتقد .

انتظرنا حتى اشرقت الشمس وبانت لنا معالم وتضاريس هذه القرية التي قيل لنا انها إمّاذن، فقال عبدربه (عِيّن عِيّن) وكان يشير الى الجبل الذي نزلنا منه واقترب مني ليمكنني من تحديد المكان الذي انزلقت فيه وكانت هاوية سحيقة لن يسلم منها احد حال وقوعه ولكن الحمد لله على سلامة الجميع.

كنا من مكاننا نشاهد بعض البيوت القريبة نسبيا على راس الوادي شمالا كما تظهر الى الابعد منها حركة سيارات متقطعة ، فقال عبدربه شوفوا ياجماعة : الاتفاق مع اصحابكم ان اوصلكم الى عوين والان ابصروها قدامكم تبونا ندخلها مشي دخلناها وان تبونا نطلعكم بابور من هنا الشور لكم ، واتفقنا معه في الاخير انه مادام هو معنا الى عوين فلا باس ان نركب سيارة وان هو با يرجع فالأفضل ان نمشي الى عوين ، فقال انا معكم بسيارة والا بلا سيارة قلنا اذا نركب سيارة افضل لنرتاح من المشي ونكسب بعض الوقت من النهار .

انطلقنا خلفه وسط الزرع حوالي 20 دقيقة حتى اقتربنا من احد المنازل الطينية الجميلة ويوجد بجوار البيت سيارة صالون تويوتا بني وابيض موديل 76-77م وقال انتظروا مكانكم باشوف الشيخ موجود والا مشينا وعريناه ، اقترب حتى استظل بشجرة جوار السيارة ونادى ( ياشيخ حسين ) وكررها عدة مرات حتى اطل عليه من اعلى ولد شاب فسأله عن والده ان كان موجود ، ورد الشاب نقول له من ؟ ، قال قل له ( امعوذلي ) ومعه جماعة.

اختفى الشاب للحظات وعاد مرحبا بنا هكذا (اهلا وسهلا بمعوذلي ومن معه) وفتح الباب من اعلى بواسطة حبل مؤذنا لنا بالصعود الى الدور الثاني وانتظرنا نحن فيما يشبه الريم الصغير وجوارنا غرفة وكانها ملحق في اعلى البيت ، دخل العوذلي الى الغرفة وعاد بعد دقائق وقال: اتفقت مع الشيخ على 250 ريال كرا الى البيضاء وقده احسن لكم من الجعجعة في عوين ، وافقنا على الفور طالما ومشوارنا الى البيضاء مباشرة وهذا يوفر عليناالمساءلة الروتينية في عوين في مكتب استلام جماعة على ناصر وتسجيل البيانات.

قال ادخلوا سلموا عليه وتقهووا لما يجهّز عمره ، دخلنا الغرفة المغطاة بما يشبه الضباب بفعل اللبان المتصاعد من موقد صغير وبجوار الموقد يجلس رجل وقور في وضع القرفصاء يقرأ القرآن من مصحف كبير وهو مدثر بشال اخضر لا يرى منه الا وجهه وفي الجانب الاخر دلة قهوة ونصف قرص دخن على غطاء تورة صغيرة ، سلمنا عليه وجلسنا بالقرب منه وبعد ان رحب بنا واشار علينا بالقهوة قال : كلمكم امعوذلي؟ قلنا نعم كلمنا ونحن في اوجاهكم لما توصلونا البيضاء ، قال ولا بايصيبكم الا ماصابنا انتم في الوجه وشخط باصبعه على جبينه باعتزاز .

شربنا قهوته وتباركنا من الخبز بينما الرجل يجهز نفسه وابنه استعدادا للرحلة سلمنا مبلغ الاجرة الى العوذلي وقال عادك اكتب امورقة دي قالوا لك اصحابكم !. قلت له الاتفاق ان نسلمك الورقه في عوين ، قال اكتبها وخلها معك لما عوين عدشي عندي ؟!،
احسست انه قد انتصر علينا بهذه الكلمة كما هو الاحساس بان الرجل صادق ولا هو بعياب كيف لا وقد ادخلنا بيته واطعمنا وآوانا وآمنا على نفسه عندما سلم لنا سلاحه الشخصي معظم اوقات الرحلة .. وهكذا اخذت ورقة وقلم وكتبت العبارة التي حفظتها في لودر : (الوالد ابو عبدالله وصلنا الى عوين بحفظ الله ورعايته وقل للوالد يعطي الغنم القصب) وبعد ان انتهيت سلمتها عبدربه وقال خلها معك لما نصل ، وقلت له متى ما ودعتنا ياعم عبدربه سنعرف اننا في عوين ، اخذ الورقه وعطفها وعينه مانزلها من عيني وكانه يراني للوهلة الاولى ، وبهذا فهمت انه قد فهم مقصدي وقولي هذا جاء بعد ان شخط الرجل صاحب البيت في وجهه أي اننا ما معنا الا عدالتهم سواء اوصلونا عوين او لا طالما ونحن لا نعرفها ولا غيرها من مناطق الشمال .

نزلنا بعد ان تزهّب هذا الرجل جميل المنظر والملبس وتمنطق بالجنبية الذهبية والزلم الاسود وبندقية آلية ، ركبنا السيارة حسب الترتيب : الشيخ حسين وابنه الشاب في المقدمة وانا وعبدربه وناصر صالح في الوسط والاخوين عبدالرحمن ابوبكر ومحمد صالح عيمشه في الخلف ، تحركت السيارة باتجاة عوين عبر الوادي ولم يطل مسيرنا لولا رداءة الطريق ومع هذا وصلنا بعد ثلث ساعة تقريبا الى سوق عوين الذي بدأ مزدحما بالناس والدواب والبضائع.

توقفت بنا السيارة امام مبنى صغير كان لابد من المرور عليه لاخذ تصريح المرور لنا الى البيضاء ، طلب الشيخ حسين بطائقنا الشخصية الجنوبية ونزل يرافقه ابنه الى هذا المركز الحكومي ونحن وعمنا عبدربه نزلنا في سوق عوين الذي هو عبارة عن شارع واحد وسط اكشاك خشبية وصفيح زنك الا من بعض المحلات القليلة لكنه اخذ شهرة كبيرة عندنا بما يأتي الينا منه من بضائع مهربه ، سرنا سويا معظم السوق الذي يشابه بعضه في كل شي وما يميزه عن اكشاك الجنوب حجم البضائع وتنوعها واغلبها لم نرها من قبل ولم نعرفها في اسواقنا في ذلك الوقت.

واثناء عودتنا الى مكان السيارة سألني عبدربه عن الجرح في رجلي وهل مازال يؤلم ام لا ؟ واجبته بانه اخف من ذي قبل بكثير وقال: (مانا قلت انك باتعقر علينا بعد امصوب لكنك وفيت) واخذ يتلفت يمنة ويسرة وقال وين رجع املحجي ؟ وكان ينتظر تعليق الساخر بن عيمشه لكن الاخير ولحسن حظي كان مستمتع بالنظر الى انواع من السكاكين في بسطة مجاورة ، وكانت فرصة من السماء لمهاجمته فقلت معلقا (من له مهره ما مل خزاها) قال عبدربه ايشمن مهره يقشر بصل ؟ قلت لا يشرّخ لخم ، وكانت هذه اخر الدردشات اللطيفة مع ذلك الرجل الشهم الذي اخذ يدعو لنا عند الوداع واحتضننا بحرارة حتى اغرورقت عيناه بالدموع ، وسار رفقتنا الى حيث تقف السيارة وودع الشيخ حسين وولده واختفى بل تلاشى سريعا في زحام عوين .

مشــــاركـــة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى