عظمة القائد في تواضعه .. الرئيس الزبيدي أنموذجًا

كتب | د. يحيى شائف ناشر الجوبعي
في لحظات مفصلية من تاريخ الشعوب، تخرج من رحم المعاناة قيادات استثنائية لا تُقاس عظمتها بعدد الخطابات أو قوة السلاح، بل بقدرتها على احتواء التباين، وجمع الشتات، ومدّ الجسور في زمن تتسع فيه الفجوات.
ومن هذا المنطلق وبينما كانت الملايين تردد الهتافات باسمه، وتجدد له العهد والولاء، وتمنحه تفويضًا جديدًا، لم يسلك الرئيس القائد عيدروس الزبيدي رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي والقائد الأعلى للقوات المسلحة الجنوبية ونائب رئيس مجلس القيادة الرئاسي مسلك المنتصر المتشدد، ولم يغلق الأبواب في وجوه من خالفه، بل فاجأ الجميع بخطوة لا يصنعها إلا الكبار حين قام وبتواضع الكبار بخطوة وطنية مشرفة تجسدت في زيارته المفاجئة للأخ المناضل القائد صلاح الشنفرة وإلى منزله في منطقة شكع الباسلة.
منطلقًا من إيمانه المطلق بوحدة الصف الجنوبي المجسد بميثاق الحوار الوطني الذي أُنجز تحت شعار (الجنوب لكل وبكل أبنائه)، ومجسدًا لمبدأ (من لم يأتنا سنذهب إليه).
وما كان لذلك التباين أن يكون لو تعامل الأخ القائد صلاح الشنفرة بواقعية مع المشهد السياسي الجنوبي، وخاصة مع التطورات التي أنتجتها ظروف الحرب بعد العام ٢٠١٥م، وما لها من علاقة في الإرث النضالي الجنوبي منذ احتلال الجنوب في صيف عام ١٩٩٤م، ولاسيما بعد التفويض الشعبي للقائد عيدروس قاسم الزبيدي في تشكيل حامل سياسي برئاسته، وهو الأمر الذي أدى إلى قيام المجلس الانتقالي الذي استوعب مجمل المكونات الجنوبية (الثورية منها والسياسية والمدنية والعسكرية والأمنية والاجتماعية وغيرها)، وأصبح بذلك الكيان الوحيد الذي التفت حوله الأغلبية الساحقة من جماهير شعبنا الجنوبي الثائر، وهذا ما تريده القوى الصانعة للقرار في المنطقة والإقليم والعالم.
وبهذا كسب الانتقالي برئاسة الأخ الرئيس القائد عيدروس الزبيدي الشرعيتين:
الشرعية الشعبية السلمية
الشرعية الميدانية المسلحة
كما حظي بالشرعية الدولية من خلال الشراكة مع دول العالم في محاربة الإرهاب الإخواني وخلاياه من (القاعدة وداعش) المعادي لمصالح دول العالم والمناهض للمشروعين الجنوبي والعربي، كما أصبح شريكًا مع دول التحالف العربي في محاربة المشروع الحوثي الإيراني المناهض للمشروعين الجنوبي والعربي.
وهو ما جعل العالم كله، وفي كل المحافل المحلية والعربية والإقليمية والدولية، يتعامل مع المجلس الانتقالي برئاسة الرئيس القائد عيدروس الزبيدي كأمر واقع.
ورغم الجراح، إلا أن الرئيس القائد عيدروس الزبيدي اختار طريق الكبار، إذ لم يكن ذلك ضعفًا ولا تراجعًا، بل كان فعل قائدٍ واثقٍ من نفسه، راسخ في شرعيته، مترفع عن الخصومة، مدرك أن بناء الأوطان لا يكون بالقطيعة بل بالتسامح وتوحيد الصفوف.
وهذا السلوك العظيم ليس وليد اليوم، بل هو سلوك متوارث اتبعه القادة والرؤساء والملوك والأمراء العظام الذين يضعون مصلحة الوطن فوق كل المصالح، ولنا في التاريخ نماذج قيادية عظيمة يُحتذى بها، نحو:
1- نيلسون مانديلا: بعد خروجه من السجن الذي قضى فيه ٢٧ عامًا على يد نظام الفصل العنصري، لم يسعَ مانديلا للانتقام بل دعا للمصالحة الوطنية، وعيّن شخصيات من النظام السابق في حكومته، وبذلك انتصر للسلام والوطن وترفع عن الجراح الشخصية.
2- الملك عبدالعزيز آل سعود: مؤسس المملكة العربية السعودية بعد توحيد المملكة، فتح قلبه قبل بواباته لقبائل وشخصيات كانت في السابق خصومًا له، وضمّهم إلى دولته، وأكرمهم، بل جعل منهم مستشارين وقادة، وبذلك أسّس دولة كبرى على مبدأ العفو والكرم السياسي.
3- الملك فيصل بن عبدالعزيز: في لحظة سياسية فارقة، قرر فتح صفحة جديدة مع من خالفه، واضعًا مصلحة الأمة فوق الحسابات الشخصية، فكان رجل الدولة الذي أعاد التوازن للعالم العربي.
4- الرئيس جمال عبد الناصر: رئيس مصر بعد محاولة اغتياله في حادث المنشية عام ١٩٥٤م من قبل جماعة الإخوان، لم يُصدر حكم الإعدام على جميع المتورطين، بل احتوى عددًا كبيرًا من المختلفين معه وعيّنهم لاحقًا في مناصب سياسية، بل اختار في أوقات كثيرة لمّ الشمل المصري على حساب النزاعات.
5- الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان: رئيس دولة الإمارات كان من أبرز المتسامحين، منطلقًا من مبدأ (من أخطأ فقد سامحته ومن عاد فقد قبلته)، والأمثلة كثيرة منذ تأسيس الإمارات مرورًا بمرحلة البناء إلى مرحلة النهضة والرقي، بل تجاوز في تسامحه مخالفينه داخليًا إلى التسامح مع من وقف ضده وضد الإمارات عربيًا وإسلاميًا ودوليًا، وبذلك تمكن من بناء واحدة من أعظم وأرقى الدول العربية المعاصرة.
6- الرئيس رفيق الحريري: بعد الحرب الأهلية اللبنانية، لعب دورًا محوريًا في مصالحة الفرقاء السياسيين من الطوائف المختلفة، وعفا عن من انتقدوه وحاربوه إعلاميًا، وبذلك اختار إعادة الإعمار على تصفية الحسابات.
7- المهاتما غاندي: الزعيم السياسي والروحي للهند، رغم تعرضه للضرب والسجن والتنكيل من قبل الاحتلال البريطاني وحلفائه المحليين، كان دائم الدعوة للتسامح والمصالحة، حتى مع خصومه داخل الهند، فأصبح زعيمًا لا يرى في الكراهية سلاحًا، بل يرى في التسامح قوة.
8- الملك الحسين بن طلال: ملك الأردن، في أكثر من مناسبة خاصمته أطراف سياسية داخلية، لكنه كان دائم المبادرة بزيارتهم ومصالحتهم، وإعادة دمجهم في الحياة العامة، وبذلك أصبح زعيمًا يُقرّ أن الخلاف لا يعني العداء.
9- الإمام الشافعي: في المجال العلمي، خالفه الكثير من الفقهاء، ورغم ذلك كان يقول: “ما ناظرت أحدًا إلا تمنيت أن يُظهر الله الحق على لسانه”، مما يدل على أن العظمة حتى في الفكر تُقاس بالتواضع لا بالتعالي.
10- جورج واشنطن: رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، بعد انتهاء حرب الاستقلال، دعا إلى مصالحة مع من دعموا الاحتلال البريطاني من الأمريكيين، ورفض مبدأ الانتقام، وبهذا المبدأ أسّس أمريكا الحديثة على مبدأ العفو الوطني.
واقتداءً بهؤلاء القادة العظام، اختار الرئيس الزبيدي النزول إلى الأرض، إلى الناس، إلى المختلفين معه قبل الموافقين له، ليقول للجميع: (ولِمَ الخلاف والجنوب يتسع لنا جميعًا).
وبهذه الزيارة المباركة، لم يحقق الرئيس الزبيدي مكسبًا سياسيًا آنيًا، بل أرسى مبدأً عظيمًا: أن الجنوب وطنٌ لكل أبنائه، وأن القائد الحقيقي هو من يتسامح ويصنع من خلافات الداخل جسورًا للتواصل لا خنادق للقطيعة.
باحث أكاديمي ومحلل سياسي



