عزلة العقل

كتب ـ علي شوقي

في متاهة الروح، وصراعات منتصف العمر وأسئلة الوجود،
عندما أنفرد بنفسي، أسلخ روحي عن جسدي، وأجلسها أمامي ككيانٍ منفصل، أضعها في الجانب الآخر، ويتوسم عقلي، ذاك القاضي العادل الذي لا يلين، ف أجدني مشفقاً على حياة مازالت تتسرب من بين أصابعي كرمال صحراء لا تمسكها كفٌّ متعبة، دون جدوى. لم أرغب في حدوث كل هذا، لم تكن صفحات قدري لتُكتب بحبر هذا الألم، ولم أخطط لهكذا سير يقودني في منتصف العمر إلى هوّة سحيقة من الحيرة والاضطرابات المبهمة.
لم أشعر يوماً بالحب الحقيقي، ذاك الوهج الذي يوقظ الفراشات في الصدر، لم تتسلق عقلي أنثى ذكية جديرة بإخراجي من هذه الحالة، لم تعبث أناملها بخيوط روحي المتشابكة، عشت النضوج مبكراً جداً، قطفت ثمار العقل قبل أوانها، وهذا الأمر تحديداً قادني إلى العزوف عن أية علاقة خارجة عن الحسابات الدقيقة، فأنا مهندس الروح الذي لا يبني إلا على قواعد الإحصاء. أنا الذي أضع دائماً علامة استفهام ثقيلة كصخرة جلمود مع كل خطوة، وكل صدفة تطرق بابي خلسة، وكل تجربة تمتد أمامي كخط إجباري لا يمكن تجاوزه. أمارس دور الاقتصادي المعتق الذي لا يؤمن إلا بالأرقام الحقيقية، فالواقع عندي قِيمة مطلقة لا تقبل التأويل، وهذا بحد ذاته مهلك جداً.
الآن أسلخ نفسي عن ذهني، أخرج من شرنقة المنطق القاسي، أعيش صراعات الوجود والأسئلة المتزاحمة على أبواب عقلي، تدق بعنف كعواصف هوجاء… هذه الحياة ومتطلباتها، فصولها المتلاحقة التي لا ترحم، وهذه المراحل ومتاعبها، كل عقبة فيها تترك ندبًا لا يمحوه الزمن، هذه الأرصفة التي تنام عليها أوجاع البشر تارة كظلال شاحبة، وتشعل أجسادهم تارة أخرى كجمر متقد، هذه الحروب النفسية والمعاناة وهذه التفاصيل الخبيثة، كل رصاصة فيها تغرس غدرًا في الروح، هذه الأوطان وهذه المنافي الكئيبة، كل قطعة أرض فيها تحمل أثقال الغربة، الطبيعة التي تتراقص تحت أقدامنا بألوانها الزاهية تارة، وتسير متقلّبة فوق رؤوسنا بغضبها الهادر تارة أخرى، الصيحات الغائرة في أعماق القلب، صدى آلام لا تبلغها الآذان، والتشنجات المكتومة في أحشاء الروح، صرخات لا تجد طريقها للبوح، هذه الأفكار المتصارعة، ميادين حرب لا تهدأ في رأسي، والخيول الجامحة في الذات البشرية، تسحبني نحو المجهول بلا هوادة، هذه العواطف التي تسلب الإنسان قوته، تجعله أسيراً لذاتٍ لا يملكها، والعقول التي تحيله إلى خشبة مؤذية، جامدة كالحجر، بلا روح ولا شعور.
وفي دوامة كل هذه الصيحات، يتشكّل الفجر من رحم الظلام، تتكون شخصية أخرى، روحاً مختلفة، قلباً يرفض هذه المسارات المتبلدة، ينفض عن كاهله غبار الحسابات الباردة، لأجدني مرة أخرى في مواجهة السؤال الأكثر حضوراً، ذاك السؤال الذي يطرق أبواب الوعي بحدّة لا تُحتمل،
ماذا لو كنت في الجانب الآخر، دون قيود الحسابات الدقيقة ومنطق الأرقام الصارمة؟ ماذا لو كنت شخصاً آخر، خُلِقت من طين مختلف، هل كان لهذا كله أن يحدث؟ هل كان لهذا العذاب أن يتسلل إلى ثنايا روحي؟؟؟؟؟

تأملات……..

مشــــاركـــة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى