طمس الشعب
كتب/سناء العطوي
كأننا نعيش في مسرحٍ بلا جمهور.
كل يوم يُعاد المشهد ذاته: وجوهٌ متعبة تخرج إلى الشوارع، ضجيج السيارات، أصوات المولدات، روائح الغبار الممتزجة برائحة التعب.
تبدو المدن كأنها تتنفس على استحياء، والناس يمضون بلا ملامح، يضحكون وهم في أعماقهم يبكون.
نحيا، نعم، لكن لا أحد يشعر أنه حيٌّ فعلاً.
كل شيء فقد معناه، حتى الكلمات.
صرنا نردد الشعارات كما يردد الطفل أنشودةً لا يفهمها.
نكتب عن الوطن ونحن لا نشعر به، نتحدث عن الأمل ونحن لا نصدقه، نلوم الآخرين كي لا نواجه أنفسنا.
وحين نحاول أن نصرخ، يأتي الصوت الخفيّ من الداخل يقول: “اِصهْ… لا فائدة.”
تبدلت الوجوه، تغيّرت الأصوات، وتعاقب على المشهد من وُعدنا بأنهم سيغيّرون، لكن شيئًا لم يتغيّر.
ما زال الناس ينتظرون، وما زالت المعاناة تُعيد نفسها بأساليب جديدة.
لا فجر يكتمل، ولا ليل ينتهي.
لقد طمس الشعب، لا بالحديد والنار، بل بـ الصه الذي يكمم الأرواح قبل الأفواه.
طمسوه حين أقنعوه أن صمته حكمة، وأن القبول قدر، وأن المطالبة بالحق تهور.
طمسوه حين جعلوه يخاف من صوته، ويبرر الظلم بحجة الواقع، ويقول: “لسنا أول من يتألم.”
حتى صار الوجع عادة، والاعتياد مرضًا لا يرى.
أخطر ما أصابنا لم يكن الجوع ولا الحرب، بل ذلك الخدر البارد الذي سكن قلوبنا.
أن نرى الخراب ونقول: “سيصلح غدًا”، أن نعيش في فوضى ونقنع أنفسنا أنها طبيعية، أن نحلم بأبسط حقوقنا كأننا نطلب المعجزات.
صار الوطن ذكرى تروى، لا حقيقة تُعاش.
لم يعد الخطر في من يسرق قوت الناس، بل في من يراهم يسرقون ويقول: “ما شأني.”
لقد أصبحنا شهودًا على انطفاءنا، نرى أنفسنا نذوب في الرماد ببطء، دون مقاومة تذكر.
كأننا نساق إلى الغياب ونحن نصفق في الطريق.
كنا يومًا نملأ الأرض هتافًا، والآن نكتفي بالهمس.
كنا نغضب حين يهان أحدنا، والآن نضحك لنخفي وجعنا.
لم يعد الغضب فضيلة، ولا الكرامة واجبًا، بل ترفًا لا يقدر عليه إلا القليل.
لكن رغم كل هذا العتم، في داخل هذا الشعب ما زال شيءٌ لا يُطفأ.
في كل أمٍّ تُرسل أبناءها إلى المدرسة وهم لا يملكون قوت يومهم، لكنها تفعل ذلك من أجل هذا الوطن
في كل عاملٍ ينهض رغم الجوع، في كل معلمةٍ تشرح لأطفالها بحبٍّ رغم انقطاع الراتب،
في كل شابٍّ يبتسم وهو يعرف أن الحياة لا ترحمه
هناك نبض صغير، عنيد، لا يموت.
قد يحاولون طمسنا، يخنقون أصواتنا، يغرقوننا في الصه، لكن ما دام فينا قلبٌ واحد يؤمن أن الكرامة لا تُشترى، فسنعود.
ربما ببطء، ربما بخطواتٍ متعثّرة، لكننا سنعود.
النهوض لا يأتي من الخارج، ولا من قرارات، بل من لحظة صدقٍ في داخل الإنسان، حين يقرر أن يكون هو التغيير الذي ينتظره.
فالوطن لا يُبنى بالوعود، بل بالبدايات الصغيرة؛ بقول كلمة حق، بموقفٍ شريف، بإصرارٍ على ألّا
مجرّد ظلٍّ لأنفسنا.
نعم، طُمِس الشعب.
لكن الطمس ليس موتًا دائمًا، بل اختبارٌ قاسٍ لإرادته.
وحين يختار أن ينهض من تحت الركام، حين يقول “كفى”، حين يرفض “الصه”، عندها فقط تبدأ الحكاية من جديد.








