جهاد حفيظ وكتابه اللجان الشعبية
بقلم/ أبو زين ناصر الوليدي
كان أخي وصديقي وشقيق روحي الدكتور الخضر الجونة رحمه الله دائما يحثني على كتابة الأحداث الجارية في بلادنا أو ما يصل إلينا من أحداث المنطقة العربية، وكنت أقول له : يا أبا مهدي جميع الأحداث اليوم ترصدها الصحف والقنوات الفضائية والمواقع الإلكترونية، ليس باليوم بل بالساعة والدقيقة، فما الحاجة لكتابة بوميات أو تأريخ لهذه الأحداث التي تطاردنا في كل لحظة بتغيراتها؟ فيقول رحمه الله: قد لا تحفظ أكثر الكتابات إلى الزمن المستقبل، وهناك بعض الأحداث في مناطقنا لا تغطيها وسائل الإعلام، وربما استجابت لإلحاحه وكتبت بعض الأحداث في كراسة ثم انشغل عنها حتى أفقدها في زحمة الكتب والأوراق وأترك ذلك.
جاء(الربيع العربي) الذي تحول إلى خريف عاصف وتوالت معه الأحداث، فسلمت أبين لتنظيم القاعدة ونزح الناس من عاصمتها زنجبار بالكلية، ولم يبق فيها إلا مقاتلو القاعدة، حتى غادرتها الكلاب والقطط والغربان. وسيطر الجهاديون على جعار وأقاموا فيه إمارة امتدت من تخوم عدن غربا إلى مدينة عزان شبوة شرقا إلا أنهم لم يحكموا السيطرة على جميع هذه المساحة الجغرافية، حيث تشكلت اللجان الشعبية في لودر ومودية ونظم الناس أنفسهم لمواجهة القاعدة، وبدأت الاشتباكات والاغتيالات والمفخخات تتوالى في تلك المناطق، ونفذت عمليات انتحارية للقاعدة داخل مدينة مودية سواء كان عبر أفراد انتحاريين مفخخين أو عبر سيارات مفخخة وممن أتذكره الآن من ضحايا هذه الانتحاريات (أبوبكر عشال وناصر علي ديمح( البعسي) ومحمد الدحيمي). رحمهم الله جميعا، وقتل غيرهم بطرق مختلفة، وجرت مواجهات في النقاط على طول الخط وقتل من شباب مودية وشباب القاعدة الكثير،
وكذلك كان الحال في لودر حيث بدأ التنظيم يتحرش بالمدينة ويقوم ببعض التفجيرات أو السيطرة على بعض المقرات، وبدأت رحلة أهل المدينة مع التنظيم بالحوارات والجلوس معهم ومحاولة إخراجهم من المدينة بسلام، ولما فشلوا في ذلك تداعى الناس لتشكيل اللجان الشعبية، خاصة وقد تفلتت الأمور وسقطت الدولة، وتدريجيا نشب الصراع بين اللجان الشعبية في لودر وتنظيم القاعدة وتابع التنظيم أسلوبه المعتاد في التفجير والتفخيخ والانتحاريات، ولكن اللجان الشعبية بقيادة توفيق الجنيدي (حوس) والذي قتله التنظيم بعبوة ناسفة، استطاعت طرد التنظيم من المدينة، وهذا التصارع أدى إلى نزوح الكثير من سكان المدينة.
حتى قررت قيادة التنظيم في جعار وزنجبار أن تغزو لودر وتضمها إلى مساحات التنظيم، فسحبت قوات كبيرة مما تملكه من الأسلحة والمقاتلين حتى ضربت الحصار على المدينة ظنا منها أن أهلها سيرفعون الراية البيضاء، ولكن اللجان الشعبية ووراءها الناس صمدت للتنظيم وخاضت معه معارك تعد من أشرس المعارك التي نشبت في تاريخ اليمن المعاصر.
كنت أنا حينها في عدن وكنت أتابع الأحداث بقلق وأسف، وللأمانة التاريخية كنت أتوقع سقوط المدينة بيد التنظيم لأسباب كثيرة لن أطيل بذكرها ، ولكن أذهلني صمود المقاومين وشدة تضحياتهم في معارك تصل أحياناً إلى (مسافة الصفر) وكنت حينها أقول أن هذه المعركة تشبه معركة لينينجراد التي صمد فيها الروس لزحف الألمان ثم كسروهم على أبوابها، وفي أكثر من لقاء ومناسبة كنت أقول ما يجري في لودر هذه الأيام يحتاج إلى من يدونه على شكل يوميات، هذه معركة أسطورية وصمود خرافي بين قوتين غير متكافئتين، وكنت اتواصل مع بعض الإخوة في المنطقة الوسطى أن يدونوا تلك الأحداث بصدق وإنصاف وتجرد حتى تحفظ للأجيال فقد أضعنا من تاريخنا الكثير والكثير وخاصة أحداث السبعينيات فضلا عن أحداث القرن العشرين والمرحلة القبلية التي مرت بها المنطقة الوسطى بما فيها من أحداث وفنون.
وبعد أن انتهت وظيفة التنظيم في أبين قرر الذين فتحوا له الأبواب أن يطردوه فكان لهم ما أرادوا ثم جاءت أحداث أخرى تتوالى كلما قلنا انتهت تمادت، كان المؤسف في هذا كله أن الأحداث هذه لم توثق ولم يكتب تاريخها وسوف تذهب إلى قبور النسيان كما ذهب غيرها.
هكذا كنت أظن حتى كانت الورشة النقاشية في الشهر الماضي مايو ٢٠٢٣م التي كان لي شرف القيام بها عن تاريخ دثينة ودورها في الفتح الإسلامي وبحضور عدد كبير من نخبة المنطقة الوسطى، وكان من سعادتي يومها أن تعرفت على السيد جهاد حفيظ مدير إدارة الإعلام في مديرية لودر في عدد من إخوانه أبناء لودر الذين قطعوا هذه المسافة حرصا منهم على الحضور والمشاركة في مثل هذه الفعاليات، وهي المرة الأولى التي أتعرف فيها على الأستاذ جهاد، وكان من حسن حظي أنه أهداني كتابه ( اللجان الشعبية) والذي دون فيه أحداث تلك الملحمة اللودرية والذي كان هو نفسه أحد أبطالها فكشف هذا الكتاب الغموض عن كثير من الأحداث المتتابعة التي جرت في مدينة لودر ومحيطها وكشف عني أيضا غمة الأسف على إهمال كتابة تلك الأحداث، حقيقة إني استمتعت بقراءة الكتاب وعشت معه تفاصيل الأحداث بقلم الأستاذ جهاد الرشيق وأسلوبه السهل البديع، فقد أنصف أبناء لودر وأدى بعض حقهم على مدينتهم وكان منصفا فيما كتب حتى مع التنظيم فهو كتب بقلم المؤرخ الذي يتخلى عن مشاعره ومواقفه المسبقة عند الكتابة حفاظا على أمانة القلم، وأنصف الشهداء الذي يقارب عددهم مائة شهيد بتدوين أسمائهم مع صورهم وقد قتلوا على أبواب مدينة لودر مدافعين عنها وعن أهلها مواجهين أشرس زحف عرفته اليمن في تاريخها الحديث وأرجو أن لا أكون مبالغا في ذلك .
شكرا للرائع الجميل جهاد حفيظ على الباب الذي فتحه للكتاب والمؤرخين والأدباء والأعلاميين من أبناء المنطقة الوسطى ليقوموا بتغطية تلك الأحداث حتى تخلد في ذاكرة التاريخ، لأن هناك حقيقة صارخة تؤكد لهؤلاء الكتاب : ان (السيرة العظيمة المدونة لم تخلقها الوقائع الفعلية في حياة الإنسان بقدر ما خلقتها الكتابة نفسها، وقيمة السيرة تتمثل في قيمة النص نفسه لا في الواقع الخارجي الذي يفترض أن النص يسعى إلى تسجيله) فكيف إذا كان الواقع الخارجي بهذه الضخامة.
فبين يديكم أحداث تستطيعون الكتابة عنها كل بطريقته أحداث مدهشة وغريبة يمكن أن تكون موضوعا لقصص وروايات وأفلام وثائقية ومدونات تاريخية فمع كل حدث قصة ومع كل شهيد حكاية.
والرجاء من الأستاذ جهاد أن يواصل مشوار كتاباته عن هذه الأحداث ويغطي مساحة المنطقة الوسطى بل ومحافظة أبين، وإنا لمنتظرون.
.