ماذا لو عيّن ترامب «مهووساً بالتضخم» لرئاسة الفيدرالي؟

أبين ميديا /متابعات /كريس جايلز
منذ أن اكتسبت فكرة استقلالية البنوك المركزية زخماً في تسعينيات القرن الماضي، برزت مخاوف مشروعة حيال مدى التزام صانعي السياسة النقدية بخدمة المصلحة العامة.
وفي هذا السياق، قال اللورد مارفن كينج، المحافظ السابق لبنك إنجلترا، «إن أهداف التضخم في المملكة المتحدة وُضعت لتكون متناظرة حول نسبة 2 %، بحيث لا ينجرف مسؤولو البنك المركزي إلى ما وصفه بـ«هوس محاربة التضخم».
هذه الرؤية المتوازنة تجسد جوهر التفويض المزدوج الممنوح للاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، والمتمثل في تحقيق أقصى معدلات توظيف ممكنة مع ضمان استقرار الأسعار، لكن من الواضح أن الرئيس دونالد ترامب، لا يُبدي اهتماماً كبيراً بالنظريات الراسخة أو الممارسات التقليدية للسياسة النقدية، حيث أعلن مراراً عزمه إزاحة جيروم باول عن رئاسة مجلس الاحتياطي الفيدرالي لتحل محله شخصية تؤمن بخفض أسعار الفائدة.
وفي هذا السياق، قال الرئيس الأمريكي للصحفيين سابقاً: «أياً كان من سيتولى المنصب، عليه خفض الفائدة»، مضيفاً: «إذا رأيت أن هناك من سيبقي على المعدلات كما هي، فلن أعيّنه».
وبذلك، يبدو أن مرشحه المنتظر سيعطي الأولوية لخفض أسعار الفائدة، ليكون -على الأرجح- أحد «المهووسين بالتضخم».
وبات واضحاً أن المرشح الناجح لخلافة باول يجب أن يتبنى علناً رؤية ترامب بأن أسعار الفائدة المنخفضة هي استحقاق طبيعي للاقتصاد القوي، وأن يدعم خفضاً فورياً إلى 1 %.
ورغم إظهار ستيفن ميران، مرشح ترامب للمنصب الشاغر في مجلس محافظي الفيدرالي، الولاء المطلوب، فإن ذلك لم يكن كافياً، حيث وصفه ترامب صراحةً بأنه مجرد «حل مؤقت» لضمان صوت موالٍ في اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة حتى انتهاء الفترة في يناير.
في الأثناء، بدأ استعراض الأسماء البارزة الأخرى المرشحة للمنصب، ونظراً لمدى وضوح الشروط المطلوبة لشغل الوظيفة، ليس مستغرباً أن يكون جميع المرشحين الأوفر حظاً حالياً من المؤيدين لخفض أسعار الفائدة.
فكيفن وورش، العضو السابق في مجلس الاحتياطي الفيدرالي، تخلى عن سمعته بوصفه من المتشددين، وأصبح يرى الآن فوائد السياسة النقدية التوسعية؛ لذلك قال ترامب عنه في مقابلة مع «سي إن بي سي» الأسبوع الماضي: «إنه ممتاز».
كذلك، فقد نال مدير المجلس الاقتصادي الوطني في البيت الأبيض، كيفن هاسيت، هو الآخر إشادة مماثلة، ولم يتردد في الظهور على وسائل الإعلام لانتقاد باول، والإشادة بالرسوم الجمركية، والدفاع عن قرار ترامب بإقالة رئيس مكتب إحصاءات العمل، ليصبح الولاء عنواناً له، أما كريستوفر وولر، أحد محافظي الفيدرالي، والذي كان يؤمن سابقاً بضرورة رؤية تقدم ملموس في احتواء التضخم قبل خفض الفائدة، وكان يحذر من أن أسوأ خطوة هي خفض الفائدة ثم الاضطرار للتراجع عنها، فقد انشق عن قرار الأغلبية بالانتظار والترقب خلال اجتماع اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة، الشهر الماضي، مصوتاً لمصلحة خفض الفائدة.
وبذلك، لن يُنظر لأي من هؤلاء المرشحين على أنه شخصية مستقلة عن الرئيس الأمريكي، والسؤال المحوري الآن: كيف سيتعامل الاحتياطي الفيدرالي كمؤسسة مع وجود «مهووس بخفض التضخم» على رأس هرمها؟
وللباحثين عن سيناريو متفائل لمستقبل استقلالية البنوك المركزية، تقدم البرازيل نموذجاً مثيراً للاهتمام؛ ففي بدايات العام الماضي شهدت صراعاً محتدماً بين الرئيس لويز إيناسيو لولا دا سيلفا والبنك المركزي البرازيلي، الذي اتهمه لولا دا سيلفا باتخاذ قرارات ذات دوافع سياسية تهدف إلى الإضرار بحكومته، والإبقاء على أسعار الفائدة مرتفعة.
وتجلى هذا الصراع في مايو 2024، حين وجد ممثلو لولا -في لجنة السياسة النقدية- أنفسهم أقلية مهمشة أمام المعينين من قبل الرئيس السابق جايير بولسونارو، وذلك في تصويت حاسم بشأن مقدار خفض أسعار الفائدة، ولكن ما إن عين لولا أحد حلفائه السياسيين محافظاً للبنك المركزي، غير لهجته وأقر بخطر التضخم.
وفي سبتمبر 2024، صوتت اللجنة بالإجماع لأجل رفع أسعار الفائدة.
وصرح لولا حينها «إذا كان من عينته محافظاً يرى ضرورة تشديد السياسة النقدية، فلا بد من أن الأمر يستحق ذلك بالفعل».
ومنذ ذلك الحين، صوت البنك المركزي بالإجماع على رفع الفائدة ست مرات إضافية.
ويبدو أن ترامب يستشعر هذا السيناريو، ويخشى «ابتلاع» المؤسسة العريقة مرشحه وتغيير ولاءاته، وهو أمر لا يستسيغه مطلقاً.
وهو يخشى أن «المتزلفين» له اليوم قد يتنكرون لوعودهم غداً، كما أوضح لشبكة «سي إن بي سي»: «في بعض الأحيان، يبدو الجميع رائعين حتى تضعهم في المنصب، بعدها يتحولون إلى شيء مختلف تماماً».
وثَم احتمال آخر بأن تطفو الخلافات السياسية إلى السطح بمجرد تنصيب مرشح ترامب، فمحافظو الفيدرالي ورؤساء فروعه الإقليمية يملكون سلطة التصويت ضد رئيس المجلس، وحالياً لا يمتلك ترامب صلاحية إقالتهم.
وقد يرحب المؤمنون بالشفافية بهذا المشهد، لكنه ينطوي على أخطار جسيمة، إذ يمكن لترامب أن يجعل حياة محافظي الفيدرالي صعبة ومعقدة، كما أن رؤساء الفروع الإقليمية لا يتمتعون بحصانة دستورية مطلقة في مناصبهم، ما قد يعني نهاية استقلالية البنك المركزي الأمريكي بشكل كامل.
والأرجح أن يتولى رئاسة الفيدرالي شخصية تميل إلى التيسير النقدي، تسعى إلى إرضاء الرئيس من خلال التحرك التدريجي نحو تخفيف السياسة النقدية.
وعندما يدور النقاش حول ربع نقطة مئوية صعوداً أو هبوطاً، قد يكون من المستحيل الجزم بخطأ القرار؛ فهذه قرارات دقيقة، وحتى أفضل الخبراء قد ينحنون أمام عواصف الضغوط السياسية.
وطالما أن السياسة النقدية تُحدث تأثيرها في المستقبل فتحدث أمور كثيرة في غضون ذلك، فمن السهل -نسبياً- إلقاء اللوم على عوامل أخرى في ارتفاع التضخم، وإنكار وقوع خطأ في السياسة.
والأسواق المالية سترحب في البداية بخفض أسعار الفائدة، لكن كلما طال غياب الاستقلالية النقدية في الولايات المتحدة، واستمر الاحتياطي الفيدرالي في تبني مواقف تميل إلى التيسير، زادت الأخطار المترتبة على ذلك، من ارتفاع التضخم، وارتفاع تكاليف الاقتراض طويلة الأجل، إلى تآكل الثقة في الدولار.
وكما أظهرت تجربة عام 2021، يمكن لمعدلات التضخم المرتفعة أن تستمر لفترة طويلة رغم تأكيدات المسؤولين بأنها مؤقتة، إلى أن تفرض الحقيقة نفسها. ونحن الآن على وشك الحصول على رئيس للفيدرالي يكون «خاضعاً».
ويمكن أن يكون الانتقال الأولي سلساً، لكن ذلك -على الأرجح- سيكون نذير شؤم للجميع.








