هيروشيما من نوع آخر: لحظة التجاهل العظيم (تشيرنوبل العقل الرقمي: كارثة الذكاء الاصطناعي الصامتة)

كتب د.مريم العفيف

1. المقدمة: بين النفس والمنطق والفلسفة والواقع الراهن

في لحظات مفصلية من تاريخ الإنسان، كانت الكوارث الكبرى تنتج غالبًا عن عوامل تتجاوز الفيزياء إلى أروقة النفس والاجتماع.
حين نظن أن التهديد هو في القنبلة التي تنفجر، نغفل أن الأخطر هو الإنكار الجماعي، والصمت الواعي، والسكوت عن الحقيقة.

اليوم، مع تقدم الذكاء الاصطناعي المتسارع، نجد أنفسنا على حافة كارثة مختلفة، “هيروشيما من نوع آخر”، حيث يتقاطع العلم مع النفسي والاجتماعي والفلسفي.
ليس فقط لأن التقنية قد تُدمّر، بل لأن الإنسان نفسه، ووعيه، ومسؤوليته، في خطر.

في علم النفس الاجتماعي، هناك ظواهر مثل التنافر المعرفي، حيث يعيش الإنسان حالة من التوتر بين معرفته بخطر ما وبين استمراره في تجاهله.
ويُضاف إليها أثر المتفرج، حيث يعلّق الفرد مسؤوليته على الآخرين، في انتظار تحركهم أولًا.
هذه الظواهر تخلق بيئة خصبة لـ السلوك الجمعي تحت الخطر، حيث تُعطل الاستجابات وتُؤجل القرارات، رغم وجود كل المعطيات.

هذه العوامل النفسية والاجتماعية، إلى جانب تقدم الذكاء الاصطناعي المتسارع، تشكّل مزيجًا خطيرًا قد يؤدي إلى لحظة كارثية لم تشهدها البشرية من قبل.

2. ما الذي يجعل هذه “هيروشيما” مختلفة؟

عندما نتحدث عن هيروشيما، يتبادر إلى أذهاننا صورة الانفجار النووي الذي هز العالم، دمر مدينة، وأعاد رسم الخرائط السياسية والإنسانية.
لكن هيروشيما من نوع آخر ليست انفجارًا ماديًا، بل هي انفجار نفسي واجتماعي تقني، يخلخل الأسس التي تقوم عليها المجتمعات.

2.1 التنافر المعرفي:

هي حالة نفسيّة تحكم الكثير من سلوكنا اليوم، حيث نعلم بوجود خطر الذكاء الاصطناعي، لكن نمارس سلوكًا متناقضًا معه.
مثال: مستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي يعون خطر نشر الأخبار الكاذبة لكنهم يستمرون في المشاركة دون تمحيص.

2.2 أثر المتفرج:

في مواقف الخطر الجماعي، يفضل الأفراد انتظار أن يقوم الآخرون بالتحرك أولاً.
في عالم الذكاء الاصطناعي، تنتظر الدول الكبرى والأطراف المعنية تحرك بعضها البعض، مما يؤدي إلى تراخي في وضع الضوابط والتنظيمات.

2.3 السلوك الجمعي تحت الخطر:

حالة شلل جماعي، تظهر عندما يعلم الجميع بوجود تهديد حقيقي، لكن لا أحد يتحمّل مسؤولية اتخاذ الخطوة الأولى.
هذا ما نشهده في تجاهل السياسات الحازمة للذكاء الاصطناعي، رغم تحذيرات الخبراء.

3. تشيرنوبل العقل الرقمي: كارثة الذكاء الاصطناعي الصامتة

تُشبه هذه المرحلة الكارثية حادثة تشيرنوبل النووية، حيث فشل بشري وتقني أدى إلى انفجار كارثي طويل الأمد.
الذكاء الاصطناعي اليوم هو “قنبلة معرفية”، حيث لا نرى أضرارها مباشرة لكنها تتراكم داخل بنيتنا المعرفية، مؤثرة في القرارات والسياسات وحتى في وعي الأفراد.

3.1 متى يصبح الذكاء الرقمي كارثة؟

عند فقدان السيطرة على الأنظمة الذكية.

تحوّل البيانات إلى أدوات للسيطرة بدلاً من التحرر.

اتخاذ الذكاء الاصطناعي لقرارات ذاتية غير قابلة للمراجعة.

3.2 أثر الصمت والتجاهل:

كما في تشيرنوبل، كان الصمت تجاه الأخطار التقنية أحد أسباب الكارثة، والآن يتكرر الصمت تجاه الذكاء الاصطناعي.

4. دروس من التاريخ: هيروشيما وتشيرنوبل بين العلم والأخلاق

كلتا الكارثتين تعلّماننا أن العلم بلا أخلاق هو طريق إلى الدمار.
هيروشيما حملت درسًا في خطورة استخدام القوة دون رقابة أخلاقية، وتشيرنوبل بينت هشاشة النظم التقنية دون تأمين ومراقبة.

الذكاء الاصطناعي يجمع بين هذين الدرسين، فهو يتطلب رقابة أخلاقية صارمة وتعاونًا عالميًا لمنع استغلاله بشكل يؤدي إلى كارثة جديدة.

5. ماذا نحتاج اليوم؟

تشريعات دولية صارمة تحكم تطوير واستخدام الذكاء الاصطناعي.

هيئات مستقلة أخلاقية وتقنية تشرف على التقدم التكنولوجي.

تعزيز الوعي المجتمعي والنفسي عبر تعليم النقد والتحليل.

وسائل إعلام مستقلة تشرح المخاطر دون تهويل أو تبرير.

 

6. الخاتمة: الوعي الصامت أشد خطرًا من الجهل

“هيروشيما من نوع آخر: لحظة التجاهل العظيم” و”تشيرنوبل العقل الرقمي” ليستا مجرد استعارتين، بل تحذيران من واقع نعيشه.
الفرق بين النجاة والهلاك يكمن في قدرتنا على الاعتراف بالمخاطر، ومواجهة التجاهل الجماعي، وتحمل المسؤولية الأخلاقية والفكرية.

مشــــاركـــة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى