قصة قصيرة فارس والبحر

 

 

 

أبين ميديا
كتب ـــ محمد عكف

منذ صغره حين اخذه والده ذات مرة مع اخوته في نزهة إلى شاطئ البحر، ولأول مرة في حياته، ذهل فارس حينما شاهد عظمة البحر في مده وجزره، وفي توالي موجاته، وتدافعها نحو الشاطئ يسبقها زبدها الأبيض.
خوفه من البحر جعله يلتصق ويتشبث بثنايا وتلابيب والده، ، إلا إنه أُعجب بالبحر في قرارة نفسه، وصار النسيم الساحر المصحوب بقطرات رذاذ البحر، يلاطف روحه وينعشها قبل أن يمس جسده الصغير، ويجعله مشدوها في هذا الأزرق العملاق إللامتناهي.
تنامى حبه للبحر يوماً عن يوم، ولم تفارق باله تلك الصورة العالقة في وجدانه لتلك اللحظات المذهلة الخالدة.
ولما بلغ فارس أشدّه، توطدت تلك العلاقة بينه والبحر فصارت أشد قوة، وأصبح ملاذه الآمن للراحة وقضاء أسعد اللحظات.
يلقَّبه اقرانه بالحرَّيف، لإتقانه فنون ومهارات كرة القدم، ويعرفه الناس بفارس الحرَّيف.
تنقّل للعب مع اندية مختلفة، ولكن لم يستطب له ذلك الحال، وظل قلبه مولعاً وشغوفاً بالبحر.
إستهوته عملية الإصطياد وأدمنها، فواظب عليها بزياراته المتكررة للبحر، فبينما هو كذلك، التقى على شاطئ البحر، برحيم السواح يصطاد، فكم أسعده ذلك، بأن يجد أحد ابناء حارته يشاطره عشقه البحري.
عرفه معظم اصحاب القوارب من الصيادين بتفانيه وتعاونه معهم عند بلوغهم الشاطئ، في جر قواربهم، ساعده في ذلك قوته الجسمانية الرياضية.
تمني بأن يمتلك قارباً كبيراً أشبه بقارب العم سعيد كبير الصيادين، يجوب به البحر.
افتقد فارس العم سعيد كبير الصيادين ولم يره منذ فترة، فأخبروه بمرضه، جراء عظة حوت كبير له في ساقة، في عرض البحر.
كان العم سعيد في العقد الثامن من عمره، ذو مهابة ويعرفه الصيادون بحدة طباعة ويخافونه ، ولم يجرؤ الصيادين على مخاطبته بشأن تأجير قاربه مؤقتاً لسد الاقساط المتبقية وتسديد بقية إلتزاماته.
ذهب فارس وصديقه رحيم لزيارة العم سعيد، واخذا معهما بعض الأسماك والخضروات والفواكة.
كان المنزل دورين بلوك، لا يبعد كثيراً عن البحر، مسيَّج بحوش كبير فيه أشجار مختلفة جوافة، باباي، منجا ليمون، قد بدت أوراقها مُصفرَّة بسبب قلة الريَّ.
يحرس المنزل كلب ضخم بُني اللون ، قد بدا الهزال ظاهراً على هيئته لشدة جوعه.
– رحيم : لن يدعنا هذا الكلب الضخم، نقترب من الباب، والبيت يبدو لي أشبه بالمهجور، نوافذه مغلقة، وكثرة أوراق الاشجار ملقاة في الممر بين الأشجار.
– دع الأمر لي قال فارس،
وأخرج سمكة، ورماها للكلب مصحوبة بتصفير خفيف، فخفت حدة الكلب الجائع.
طرق الباب فارس:
صوت فتاة من الداخل :
من بالباب؟
– زوار، زوار، نريد رؤية العم سعيد.
فتحت الباب فتاة ثلاثينية وتوارت.
بدأ العم سعيد في الصالة مستلقٍ على فراشه، ساقه اليمنى مربوطة برباط طبي، شاش، أبيض تعلوه مادة صفراء متسخة نوعا ما وبحاجة إلى تضميد.
بالكاد قال:
مرحباً بكم، وبدت عيناه تدمعان إلا إنه يجاهدهما كبرياءً كي لاتنهمران.
منذ شهر والعم سعيد طريح الفراش، ولم يزره احد.
ضافت الأرض، على العم سعيد بما رحبت، وصار يتألم بشدة، لعدم تطبيبه كما ينبغي، وعاودته نوبة الربو لغفلته عن العلاج، يرفع عنقه للأعلى وللأسفل، بدأ يختنق، وبدأ محجريه فارغين، وكأنهما لايحويان عينيه، صار ينظر يمنةً و يسرةً محاولاً إيجاد ذرة هواء، كم هو محتاج لها الآن وبشدة.
حاول أن يشهق، لم يستطع كالمعتاد، لقد كبَّل الألم الشديد رجله ورنتيه، وباتت اضلاعه متصدعة جداً، وكأنها أعواد حطب متيبس قد أُعدت للوقيد، وصار جسده
يلتهب ناراً.
يزفر زفرة خفيفة جداً، لم يسعفه شهيقها بِنفَسٍ كافٍ، كي يستريح.
تشبث بوسادته بكلتا يديه، صار يعصرها بضجرِ، تتسع حدقاته، يتحجَّر الدمع فيها، يعتدل في جلسته، يتململ.
هواء، هواء، أُريد هواء، يحرك الهواء بيديه، أمام فمه، وأنفه لعله يحرك سكون الهواء.
عطشان جدا، ولا يستسيغ شرب قطرة ماه،
جائع جداً، لا يقوى أن يقتات لقيمة واحدة،
يرغب في النوم بشدة، ولا يقوى على ذلك!
لم يمتلك من حطام الدنيا غير قارب ومنزل، وبنتين جميلتين، الكُبرى سامية
ثلاثينية، والصغرى دنيا في الخامسة والعشرين من عمرها.
تم اسعافه إلى المستشفى، وتم إنقاذ قدمه من البتر بصعوبة، وأصبح فارس ورحيم احب الناس للعم سعيد وبناته، وكانوا يعودون العم سعيد، كل يوم ويقدمون له يد العون، ويعملون على قاربه العملاق بكل شرف ونزاهة.
طغت حسن اخلاق فارس ورحيم على القلوب، فأحبهم العم سعيد، وكان يفرح
كثيراً بزياراتهم.
صارت سامية، تتحرق شوقا لمجيئ فارس، وكذلك دنيا تهفو لرحيم.
عادت خضرة الأشجار وعادت حيوية الكلب، وفُتحت الشبابيك، وأصبح فارس زوجاً لسامية الكبرى وصديقه رحيم زوجاً لدنيا الصغرى. وبات فارس يمتلك بيتاً، وحوريةً جميلة لطالما راوده طيفها في منامه قبل أن يراها، وقاربا لطالما حلم به ويحلم به الكثيرين.

27/ 2/2022م

مشــــاركـــة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى