ذكريات من مرحلة الطفولة

 

 


كتب د- سعودي علي عبيد

تعتبر مرحلة الطفولة بالنسبة لنا من أهم اللحظات التي نحن إليها لأسباب كثيرة منها ما يعود إلى بساطة الحياة في تلك المرحلة الزمنية البعيدة التي مررنا بها عندما كنت أطفالا. ومنها المسافة الزمنية البعيدة التي تفصلنا عن الواقع الحالي بكل تعقيداته. ومنها ما يذكرنا بأصدقاء الطفولة الذين لعبوا ومرحنا معهم، بل وتخاصمنا معهم أحيانا، ثم تصالحنا استنادا إلى البراءة التي كنا نمتلكها.

زميلا الطفولة الأميران محمود وفيصل عيدروس العفيفي.

من المؤكد أن حديثنا يتناول السنوات الأخيرة منخمسينيات القرن العشرين.
والأميران محمود وفيصل هما ولدي ا حاكم السلطنة، السلطان عيدروس بن محسن بن علي العفيفي، سلطان سلطنة يافع بني قاصد في تلك الفترة التي نحن بصدد الحديث عنها. وكان منزلهما يقع على قمة جبل يسمى المنقاش، الذي يقع في جنوب شرقي الحصن تقريباً، وكان يبعد عن حارتنا بنحو نصف كيلومتر أو أكثر قليلاً.
أما لماذا كانا يقطعان كل هذه المسافة؟ ولماذا يفضلان اللعب معنا، برغم الفارق الاجتماعي الذي كان سائداً بيننا وبينهما؟ فذلك ما يمكن توضيحه على النحو التالي:
على قمة “جبل المنقاش” لا يوجد سوى قصرين: الأول خاص بالحاكم الأول للسلطنة، السلطان عيدروس بن محسن بن علي العفيفي، سلطان سلطنة يافع بني قاصد في تلك الفترة، أما القصر الآخر فهو يعود لنائب الحاكم أو نائب السلطان، وهو الأمير محمد بن عيدروس العفيفي، ولكنه صار مهجوراً بعد حدث هروب المذكور إلى يافع الجبل، وذلك نتيجة الخلاف الشديد الذي حدث بينه وبين الإدارة البريطانية التي أرغمته على مغادرة المنطقة، وذلك في 20/12/1957م. ولذلك حكاية طويلة.. وبسبب هذه الوضعية، فإن الأميرين محمود وفيصل كانا يعيشان في عزلة، وخاصة في فترات الإجازات الأسبوعية أو غيرها.
وبسبب هذا الواقع، فإن الأميرين (محمود وفيصل) وكطفلين، كانا يعانيان من الوحدة، وخاصة في أوقات الإجازات وذلك كما ألمحنا سابقاً. وعليه، فلم يكن من حلّ لهذه المشكلة سوى أن يبحثا عن زملاء طفولة، يلعبا معهما. وكان الحل أن يتجها غرباً، أي باتجاه حارتنا، “حارة الدولة”. ولكن لماذا كان ذلك هو خيارهما؟
في الحقيقة لا توجد إجابة قاطعة أو مؤكدة لهذا السؤال، ولكن يوجد ما يشبه الاعتقاد، وهو أن هذه الحارة – وبالعودة إلى تسميتها – “حارة الدولة” كانت هي المكان الأول الذي سكنه أمراء آل عفيف عندما أتوا إلى الحصن، ولم ينتقلوا منها إلا بعد أن صارت جعار هي العاصمة الإدارية للسلطنة، وظلت الحصن فقط لسكن السلطان. وحتى في هذه الفترة التي نحن بصدد الحديث عنها، بقي عدد قليل من آل عفيف في الحصن، مثل الأمير عبد الرحمن محمد العفيفي، والإخوان: محسن وزيد بن غالب العفيفي، وعبد الله محسن العفيفي (الجاعرة)، كما كانت بقايا أو أطلال منازل أمراء آل عفيف الذين انتقلوا إلى جعار باقية حتى تلك اللحظة الذي نحن بصدد الحديث عنها.
أما السبب الآخر، فقد يكون كامناً في الجهتين: الأميرين (محمود وفيصل)، ونحن أطفال “حارة الدولة”، ونقصد بذلك التلقائية والبساطة التي كانت متوافرة عندنا حينها.
وإذا كان لابد من معرفة أهم السمات الخاصة بالأميرين الأخوين (محمود وفيصل)، فأولاً من الأهمية بمكان التذكير أن الأميرين المذكورين هما أخوان غير شقيقين، أي من أمين مختلفتين. والسمة الأخرى هي هدوء ووداعة الأمير محمود، وحركية الأمير فيصل التي كانت تصل إلى حد الإزعاج، برغم صغر سنّه نسبياً مقارنة مع أخيه محمود الذي كان يكبره بنحو سنة واحدة تقريباً، أو مقارنة معنا نحن أطفال “حارة الدولة”.
وكان “فيصل” برغم سنّه التي لا تتجاوز الثمان سنوات أو التسع، يتصرف بشكل عام باعتباره ابن السلطان الذي يمتلك الأرض وما عليها، بينما “محمود” لا يشعرك بذلك. فقد كان متواضعاً وبسيطاً في علاقاته مع الآخرين وفي مقدمتهم زملائه الذين يبادلونه اللعب والتسلية.
أما ما هي أنواع الألعاب التي كنا نمارسها بمعية الأميرين “محمود وفيصل”؟ فذلك ما سوف نوضحه للتو.
كان الأميران (محمود وفيصل) كلما رغبا باللعب معنا، يقومان بالنزول من قمة الجبل مستقلين دراجتيهما الهوائية المتناسبتين مع سنهما، وعند وصولهما إلى حارتنا، ننظم نحن إليهما، والعكس صحيح. ثم نقوم بالتوجه إلى الحقول وقنوات الماء (الترع)، التي تكون غالباً ممتلئة بمياه السيول، لإننا نكون عادة في الموسم الزراعي الذي يبدأ من بداية يوليو إلى أكتوبر. وهي الفترة الزمنية التي تقع فيها الإجازة الصيفية.
ولإن بيننا أميرين – بل وهما ولدا سلطان البلاد المفدى – فلابد أن تكون الشلة التي تلعب معها كبيرة، وكذلك كنا، ومن غير الممكن والمعقول أن نتذكر ذلك الجيش العرمرم من الأطفال، الذين كانوا مصاحبين للأميرين. وإذا كان ذلك صحيحاً، إلا إنه من غير الممكن مطلقاً أن ننسى العمود الفقري ومحورها الأساسي، وهو “سكران هرش صوملي”(الله يرحمه), وكان في سننا، ولكنه كان “أشطر” منا، والمقصود بذلك ما يخص أعمال الطفولة، مثل السباحة، واصطياد سمك النهر “الطعاميس” وغيرها، وجني وجمع ثمار بعض الأشجار مثل ثمار السدر “الدوم”، والأراك “المريد” و”الديمن”. كما كان خبيراً في طبخ بعض أنواع الأطعمة، مثل خبز التنور أو خبز الطاوة وكذلك الطبيخ أو “الصانونة”. ومقابل تلك الأعمال، كنا نحن بقية زملائه الأطفال، صفر على الشمال، وكنا نحسده ونغار منه، ولكن ببراءة.
وبالعودة إلى رحلتنا نحو الحقول، فقد كنا نقضي جزء كبير من النهار في الحقول، كما كنا نسبح في الترع، وبعد أن نتعب، نعود من حيث أتينا، ونصطحب الأميرين إلى تحت جبل المنقاش، ونودعهما، ثم يصعدا الجبل عائدين إلى منزلهما. وهكذا تتم العملية كلما رغبا الأميران (محمود وفيصل) – ولدا سلطاننا المفدى – باللعب معنا. وللتذكير، فإن الأمير محمود بن عيدروس العفيفي، تولى أمور السلطنة – أي صار سلطاناً للسلطنة – بعد وفاة والده السلطان عيدروس بن محسن العفيفي عام 1960م، وكان حينها لا يتجاوز سنه العشر أو الحادي عشر سنة. والقصة توليته حكم السلطنة حكاية طويلة، ليس هنا مكانها.
ومن المحزن أن السلطان محمود بن عيدروس العفيفي وأخواه فيصل ومحمد قد قضوا شهداء في مجزرة “سلب حمة”, التي أرتكبتها سلطة الجبهة القومية في إبريل 1972 التي سقط فيها 18 شهيدا من حكام ومشايخ محسوبين على نظام الحكم ما قبل الاستقلال…الله يرحمهم جميعا ويسكنهم فسيح جناته.

+ الصورة المرفقة للشهيد السلطان محمود بن عيدروس العفيفي

9 رمضان 1445 الموافق 19 مارس 2024

مشــــاركـــة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى