مفارقة المثل الشعبي
كتب/محمد ناصر العولقي
الأمثال عموما والمثل الشعبي بشكل خاص يعد أداة تعريفية للمزاج العام لمجتمعه المحلي والطابع الشخصي لأفراده المحليين ، ونوعية الثقافة الشائعة السائدة في بيئته الاجتماعية التي تمنحه الخصوصية وتميزه عن غيره حتى في إطار الشعب الواحد والوطن الواحد ..
وبقدر تعدد نوعية الثقافة السائدة ، والطبائع والخصوصيات المحلية في بلادنا فإنه يتعدد أيضا صيغ المثل الشعبي الواحد من منطقة الى أخرى ومن مجتمع محلي الى آخر وفقا لذلك لتشكل كما ذكرنا أعلاه أداة تعريفية تجلي لنا خصوصية هذا المجتمع المحلي واختلافه عن شقيقه الآخر .
ويمكن لأي واحد منا اكتشاف ذلك من خلال استحضار ما في مخزون ذاكرته من الأمثال الشعبية المتشابهة ظاهريا التي يتكرر تداولها في مناطق ومجتمعات محلية ذات بيئات مختلفة مع وجود اختلاف بسيط في الصيغة اللفظية من منطقة الى أخرى ، حيث سنجد – بشيء من التفحص – أن هذا الاختلاف البسيط في الصيغة ليس اعتباطيا بل أن له جذورا تتعلق بطبيعة بيئة المجتمع المحلي ذاته وخصوصيته ، ويحمل مدلولات تتصل بشخصية أفراده وظروف حياتهم وما يتميزون به عن غيرهم في المجتمعات المحلية الأخرى في إطار المحيط الاجتماعي الوطني الذي ينتمون إليه .
فانظروا مثلا الى المثل الشعبي الذي يتكرر تداوله في أكثر من منطقة في بلادنا مع اختلاف بسيط في الصيغة :
– فهناك مناطق تتداول هذا المثل الشعبي بصيغة : لا تقول بر إلا بعدما تصربه ( أي تحصده )
– وهناك مناطق تتداول المثل بصيغة : لا تقول بر إلا بعدما تصر ( أي تعبئه في أكياس وتوثق رباطهم )
ـ وهناك مناطق تتداول المثل بصيغة : لا تقول بر إلا بعدما قده بين الكبد والصر
فالصيغ الثلاث تصور مراحل عملية الاستنفاع من زراعة البر ( الحصاد + التعبئة في الأكياس + الأكل ) ، وعلى الرغم من أن المدلول العام الظاهر للمثل مدلول واحد في حالاته الثلاث ، وهو طغيان الشك والتوجس من إتمام امتلاك ما هو مستحق ، إلا أننا سنجد أن هذا الشك والتوجس متفاوت ، وليس في مستوى واحد ، وأن الاختلاف البسيط في صيغة المثل من منطقة الى أخرى ترجع جذوره الى خصوصية وطبيعة الثقافة والبيئة الاجتماعية وحتى الطبيعية المحيطة بكل منطقة ومجتمع محلي يستعمل هذه الصيغة أو تلك، وشخصية أفراد المجتمع وظروف حياتهم ..
فالصيغة الأولى ( لا تقول بر إلا بعدما تصربه ) تتداول في مناطق بدو الصحاري الأقوياء الذين لا يخافون أو يتوقعون بعد صراب البر أن يسلبهم أحد حصادهم أو يشاركهم فيه أو يفرض عليهم إتاوة أو شيئا من هذا القبيل ، فحصاد البر هو نهاية انتظارهم للمحصول والتيقن بأنه قد أصبح في أيديهم .
والصيغة الثانية ( لا تقول بر إلا بعدما تصر ) تتداول في مناطق بدو الجبال الذين على الرغم من أنهم أقوياء إلا أنهم يضعون لأنفسهم مجالا ، واحتمالات بأن المحصول الذي أتموا حصاده لن يكون كاملا في أيديهم إلا بعد أن ينتهوا من تعبئته في الأكياس ويجلبوه الى بيوتهم .
أما الصيغة الثالثة ( لا تقول بر إلا بعدما قده بين الكبد والصر ) فهي صيغة الشك المفرط والتوجس البالغ الحساسية التي ترتبط بالمجتمع الريفي والحضري المسالم ، ولا نقول الضعيف ، الذي يسيطر على أفراده هاجس الخوف وعدم الثقة في الذات وفي الآخر ، فهم يتوقعون الإغارة من الدولة أو غيرها والسلب والنهب والسرقة وأي تدخل يحول ، في اللحظات الأخيرة ، دون حصولهم على ثمار ما زرعوه وامتلاكهم له بشكل كامل ، وليس لديهم يقين بأنهم يمتلكون ما في أيديهم أو مستحق لهم إلا بعد الانتهاء من الانتفاع به والاستفادة منه فعليا .